يقول سبحانه وتعالى في كتابه العزيز:
{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}
سورة البقرة، الآية 3.
إنّ كلمة (الإيمان) تُشير إلى الحكم الفكري، والمعرفة المبنية على المشاهدة والمحاكمة والاستدلال، وكلمة (الغيب) إنما تُشير إلى شيء مغيب لا يمكن للإنسان أن يشاهده بعينه. ولنستطيع الجمع بين المعنييْن نضرب لك المثال الآتي:
لا يعدُّ مصدِّقاً بجريان التيار الكهربائي بسلك ما ولا هو بمؤمن حقّاً بجريان هذا التيار الساري رجل قالوا له قولاً: يجري في هذا السلك تيار كهربائي فأعاد القول وردَّده بلسانه كالأطفال دون أن يتحقَّق من وجود التيار بنفسه، وكل ما يتولَّد في نفسه من المعرفة عن طريق السماع إنما هو اعتقاد مبني على قول الآخرين. وهذا الاعتقاد قد يتطرَّق إليه الشك فتجد هذا الشخص يتردَّد بين الشك واليقين والتصديق والتكذيب. ولا يمكن أن يعدَّ مؤمناً ما لم يبنِ معرفته على نظر واستدلال. فإذا هو أشعل المصباح ورأى توهُّجه، أو فتح المفتاح وتحركت المروحة الكهربائية، أو ضغط الزر وسمع رنين الجرس فعندئذ يحكم حكماً فكرياً جازماً بوجود التيار وإن لم يره لأن الفكر بناءً على ما أدركته الحواس من الآثار يحكم بوجود المؤثِّر.
وهذا الحكم الذي يحكمه المرء بناء على مشاهدة الآثار وبناء على النظر والاستدلال إنما هو حكم جازم لا يتطرَّق إليه الشك وهذا هو الذي نُسمِّيه الإيمان. وهكذا بين الاعتقاد والإيمان بون شاسع وفرق عظيم.
فالاعتقاد: يكون مبنياً على السماع من الآخرين.
والإيمان: إنما ينبثق في النفس من ذاتها بناءً على نظرها ومحاكمتها.
وننتقل الآن إلى كلمة: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ..) الواردة في الآية الكريمة التي قدّمناها فنقول:
هذا الإيمان بالغيب إنما يكون بالنظر في هذا الكون والتأمُّل فيه ثم الحكم بوجود إله مسيِّر وخالق عظيم ومربٍّ حكيم.
فإذا نحن نظرنا إلى الشمس تشرق في الصباح من المشرق فهذا يدلُّنا بلا شك على أن الأرض محمولة في الفضاء، وأنها تتحرك بحركة منتظمة وتدور دورة كاملة في اليوم والليلة. وإذا كنا نحكم بوجود تيار كهربائي يحرِّك المروحة الكهربائية عندما نراها تتحرَّك وإن لم نرَ ذلك التيار فإن تفكيرنا لا يُقرُّ بوجود حركة بدون محرِّك، فلا شك أن تفكيرنا أيضاً يحكم بوجود قوة عظيمة هائلة تحرِّك هذه الكرة الأرضية في الفضاء كما تحرِّك القمر حول الأرض بنظام في هذا الفضاء، وهكذا إذا وسَّع الإنسان تفكيره وتعمَّق انتهى به الأمر إلى الحكم بوجود خالق ومربٍّ وإله، أي: مسيِّر.. وهو يحكم حكماً جازماً بوجود هذا الخالق العظيم والمربِّي الحكيم والإله المسيِّر وإن لم يره، وذلك هو الإيمان الفكري.
فإذا فكَّر الإنسان بالمصير والفراق والموت المحتوم خافت النفس واتَّعظت وأرسلت بشعاعها إلى الفكر الذي سرعان ما يرسم لها المخطَّط الكامل للوصول إلى الإله الخالق ومشاهدة نوره واليقين الحتمي الشهودي بوجوده وإشرافه عليه وعلى المخلوقات كلّها جليلها وضئيلها، وتعلم النفس علم اليقين بأن الوجود والقيام وحياة الكون كلّه تتم بهذا الإله العظيم، شهوداً نفسياً مبنياً على علم فكري جازم وأنه حتماً سيسأله عن أعماله كلّها وأن سعادته أو شقاءه مبنيان على سيره الحسن أو السيء فيخشى النتائج ويستقيم.
إذاً فالإيمان بالغيب لمن غاب عنه الوجود الإلهي ثم بتفكيره الذاتي استدل عليه بذاته.
وكلمة (الإيمان بالغيب) تتضمن الحكم الجازم بوجود المؤثِّر بناءً على رؤية الآثار.
كما تتضمن أن الفكر الجازم يُقنع النفس ويقودها لمشاهدة المؤثِّر بعين البصيرة لا بعين الرأس أي البصر:
{... فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} سورة الحج: الآية (46).
ويتضح بذلك لنا المعنى الكامل لكلمة (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) أي: غاب عنهم الوجود الإلهي والشهود الإلهي فبحثوا فِكْراً وتيقيناً وطلبوه فوجدوه وآمنوا إيماناً شهودياً بوجوده تعالى. وفي الحديث القدسي:
«ابن آدم اطلبني تجدني، فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتُّك فاتك كل شيء، وأنا أحبُّ إليك من كل شيء».
فإذا خطا الإنسان هذه الخطوة الأولى وعرف أن له خالقاً عظيماً ومربِّياً حكيماً وإلهاً مسيِّراً بيده تصريف أمور الكون صغيرها وكبيرها، جليلها وحقيرها، فلا شك أن إيمانه هذا يجعله في حصن الاستقامة فلا يجرؤ على أن يؤذي نملة صغيرة، ولا أن يقول كلمة واحدة، أو ينظر نظرة، أو يخطو خطوة ما لم تكن خالية من إيذاء الخلْق، موافقة لرضاء الله تعالى.
وهذه الاستقامة في العمل، وهذا السير الطيِّب يُولِّد في النفس الثقة برضاء الله وبذلك تستطيع النفس أن تُقبل على خالقها وتتجه بكلِّيتها إليه.
وهذا ما يجعلنا نفهم معنى كلمة (وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ) الواردة في الآية الكريمة بعد كلمة (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ).
فإقامة الصلاة تتوقَّف على الاستقامة التي هي ثمرة من ثمرات الإيمان بالغيب.
وإذن، فليست إقامة الصلاة تلك الألفاظ التي تشبه ألفاظ الأذان مما نذكره قبل صلاة الفرض، فما تلك الألفاظ إلا مذكِّرات، وليست الصلاة فقط تلك الأقوال والأفعال التي ما هي إلاَّ وسائل وأسباب لحصول الصلاة والتعبير عنها وحصر النفس بوجهتها إلى الله، فما الصلاة إلاَّ تلك الصلة المعنوية التي تشعر بها النفس المؤمنة المستقيمة على أمر ربِّها حينما تُقبل عليه بوجهها، وما إقامة الصلاة سوى القيام بالأعمال العالية التي تولِّد في النفس الثقة برضاء الله عنها، فإذا وقف هذا العبد المحسن للصلاة بين يدي خالقه وأقبل عليه وشعرت نفسه بتلك الصلة فقد صلَّى الصلاة الحقيقية واستفاد منها ومن لم يسلك هذه السبيل فصلاته صورة لا حقيقة.
وفي الحديث الشريف:
«ربَّ صائمٍ ليس له من صيامه إلاَّ الجوع، وربَّ قائمٍ ليس له من قيامه إلاَّ السهر»
الجامع الصغير (4428) سنن ابن ماجه عن أبي هريرة.
إن هذه الصلاة التي بيَّناها، وأعني بها تلك الصلاة المملوءة بالوجهة إلى الله تعالى والإقبال عليه بسبب إيمان المصلِّي الذاتي بالغيب والشهود اليقيني لعظمة وجلال وكمال الله هي الصلاة الحقيقية التي يجب أن يصلِّيها الإنسان.