إنّ البشرية في هذا العصر تعاني قلقاً نفسياً حاداً؛ وذلك بما أحدثته الثورة التقنية من طغيان مادي كثيف، ألقى ظلاله القاتمة على الأنفس فسدَّ عليها منابع النور، وحجبها عن موطن الخلود.
هذا وإنّ الهلاك سوف يحلُّ بساحة البشرية إذا خالفت السنن أو القوانين التي أوجدها تعالى لهم، وتجاوزت إلى نقطة اللاعودة إلى الله عز وجل. ولقد ضرب تعالى من الأمثلة العمليّة فيما حلّ بالأمم السابقة عندما تجاوزت تلك السنن الموضوعة لسعادتهم، ولم يقبلوا بتحطيم الحواجز التي حالت بينهم وبين السبيل إلى الله تعالى، كقوم نوح عليه السلام وقوم عاد وثمود وفرعون...
أما اليوم، فمهما بذلت البشرية من جهد لكي تتخلص من الآلام والشقاء الذي حلَّ بها، أو من هذا القلق الحاد الملازم لها ملازمة الظلِّ لصاحبه، من هذا الضياع والضلال البعيد، ومن تلك المتاهات الفكرية المتعاكسة والمتشابكة، التي منها يظنون أنهم سوف يتوصلون إلى السعادة المنتظرة... فإنهم لن يفلحوا أبداً بذلك، ولن يفلحوا إلا بشرط واحد، هو العودة إلى إقامة شريعة الله في أرضه قولاً وعملاً، وأخذها بقوة.
فإن لم يفعلوا ولن يفعلوا! فلينظروا زلازل وبراكين وأعاصير مدمرة، وأمراضاً فتاكة، كما وقع ويقع اليوم، وبعدها ينظرون ناراً تصهر الحديد الصلب، وتُفتِّت الحجر الصَّلد، وما ذلك عن الظالمين ببعيد: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (سورة هود – الآية 102): هذا قانون، كل من سار بهذا السير، حق عليه الهلاك.
لقد ضرب لنا تعالى في كتابه العزيز الكثير من القصص عن هلاك الأمم، التي تخلَّت عن السنن الإلٓهية، واتَّبعت شرائع من وضع أهوائها، وبين لنا الأسباب التي حالت بينهم وبين الرجوع إلى دين الحق، ثم النتائج المؤسفة التي انتهوا إليها.
وكان تعالى قبل هلاكهم يرسل إليهم نذيراً، يحذرهم من مغبة معتقداتهم وأعمالهم المخالفة لسنن الوجود، ويبين لهم أن تلك المعتقدات لا تزيدهم إلا شقاء، ولا تزيدهم إلا بؤساً وابتعاداً عن منبع السعادة الحقيقية، إلا أن دعوتهم غالباً ما كانت لتلقى إلا آذاناً صماء وقلوباً غلفاً، ذلك لأن المادة قد أوصدت أبوابها على عقولهم، وأغرقتهم إلى الأذقان فهم مقمحون. لا يفلحون بل لجهلهم وعدم إيمانهم يستعجلون: {...بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ...} (سورة الرعد – الآية 6): ما حدث للأمم الغابرة، ماذا حلَّ بهم؟!
تلك الأمم التي ساقها الله مُثلاً كافية من حيث الموعظة والعبرة، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، لأن ما قيل للرسل الذين لم يذكرهم تعالى، هو نفس ما قيل لغيرهم من الرسل ، الذين ذكروا في القرآن الكريم، أو لأي رجل صالح يهدي إلى الحق. قال تعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} (سورة فصلت – الآية 43). وقال جلَّ شأنه: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} (سورة الذاريات – الآيات 52-53).
وكذلك لو تعقبنا أقوال المتقدمين منهم وجدناها مطابقة لأقوال المتأخرين: {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ...} (سورة البقرة – الآية 118).
إن الآية التي مرت معنا أعلاه: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ}: تعتبر من السنن التي لا تتبدل ولا تتحول على مر الزمن، وأنَّى مرت كلمة (كذلك) في القرآن الكريم، وكما هي في الآية الآنفة الذكر، فإن القول الذي يأتي بعدها يكون في أغلب الأحيان قانوناً أو سنة من تلك السنن التي عناها تعالى بقوله: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} (سورة الأحزاب – الآية 62).
تلك سنن وقوانين لا تتبدل ولا تتحول، فما قام به الأولون الذين لم يؤمنوا من قول أو فعل، لا يختلف من حيث الجوهر عما قاله المتأخرون، لذلك فإن الله جلَّ وعلا اقتصر في ضرب الأمثلة على بعض الأمم التي تعتبر أقوالها التي تنم عن معتقدها وأفعالها، نماذج عملية لهلاك كل أمة تسلك مسلكهم، وتعترض على رسولها اعتراضاتهم.