الشرح المعجز لأحرف أوائل السور

يتساءل البعض لماذا بدأ الله سبحانه وتعالى سورة البقرة وأمثالها من السور الكريمة بمثل هذه الرموز (الٓمٓ، الٓر، نٓ، قٓ..)، ولم يذكر لنا ما يشير إليه على وجه صريح، هل هي كما عجزوا عن فكّ هذه الرموز ولم يدركوا معانيها.. يقولون الله أعلم بمراده؟ فهل وضع الله عز وجل لنا أشياء أو رموزاً في القرآن لا نستطيع فهمها وهذا يتنافى مع علم الله وكماله! أم أن قصور همَّتنا وعدم تدبُّرنا لآيات القرآن الكريم ما جعلنا عاجزين عن فهم هذه الرموز بتأويلها العالي والكامل الذي يتوافق مع كمال الله وعلمه وحكمته؟!.

فهم القرآن يتوقف على مبدأين اثنين.

بيَّن لنا فضيلة العلامة الإنساني محمد أمين شيخو أن فهم القرآن يتوقف على مبدأين اثنين:
1ـ طهارة النفس. وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ، لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ، تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الواقعة: 77-80].
2ـ تدبُّر الآيات ويقظة التفكير.

وطهارة النفس أمر يسير فنظرة في هذا الكون لا بد أن تهدي صاحبها إذا كان صادقاً في طلب الحق إلى معرفة خالقه ومربيه وتعرِّفه بإلهه ومسيِّره فإذا آمن الإنسان بلا إله إلا الله وعرف أن سير الكون كله بيد الله فلا شك أن إيمانه يبعث في قلبه خشية وهذه الخشية تحمله على الاستقامة على أمر الله عندها يثق برضاء الله عليه فيقبل عليه تعالى وتحصل له صلة بخالقه، وبالإقبال على الله تشتق النفس الكمال من صاحب الكمال وتطهر مما فيها من خبث وأدران وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً..} [سورة البقرة: 138].

وبهذه الصفة التي اشتقها من الله تعالى تجده يحب أهل الكمال ويُقدِّر من فاقه في الكمال وقد غدا أهلاً لأن يدرك كمال رسول الله ﷺ، ويمس معاني ذلك الكلام العالي المنطوي على الكمال فيؤوِّله بما يتوافق مع الكمال قال تعالى: {لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}.. فإذا قرأ المؤمن {الٓمٓ} فلا شك أن تفكيره يستيقظ منبعثاً من رقاده متسائلاً عما تشير إليه حروف هذا الرمز فيتنبَّه ويفكر ومن لا يفكر فلا جدوى له والتفكير سمة الإنسانية، فينبغي على الإنسان ألا يقلد دون تفكير بل عليه أن يفكر بالصلاة وحقيقتها وما فيها وبالصوم وأسبابه وموجباته وبالحج وما فيه من أسرار وحكم بالغة تسمو بالإنسان لأسمى مراتب الإنسانية. وتدل الكلمات التالية بسورة البقرة بعد {الٓمٓ} وهي كلمة (ذَلِكَ الكِتَابُ) المنتهية بكاف الخطاب أن المخاطب رسول الله ﷺ من قِبَل الله تعالى. وكلمة {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ..} [سورة البقرة: 4] تشير أيضاً إلى أن المخاطب إنما هو رسول الله ﷺ المنزل عليه هذا القرآن ويجول هذا الفكر جولته في بحثٍ عن معنى الحروف مستمداً العون من الله تعالى فيرى بما فيه من كمال أن هذه الحروف إشارات لأسماء رسول الله ﷺ الذي فاق الخلق جميعاً في الكمال وكأنه يسمع أن الله تعالى ينادي رسوله.

(ا): أي: يا أحمد الخلْق، إذ بعلمك العالي الرفيع وتضحياتك الكبرى غدوت قريباً مني فحمدتني حمداً سبقت به كافة عبادي فكنت أحمدهم لي وأعظمهم تقديراً لفضلي وخيراتي وإحساني وتسييري الخيّر لكل عبادي وبذلك صرت لطيفاً. (ل): يا لطيفاً... فكل من رافقت نفسه نفسَك الطاهرة اللطيفة عرجتَ به إلي ودخلتَ بنفسه بلطف عليّ وبهذا وبقربك مني أحببت نعيم ذلك القرب للخلْق وبفعلك الطيب صرت محموداً عندي وعند خلْقي وذلك رمز (م) بكلمة (الٓمٓ).

لكن لم جعلها الله على شكل رمز ولم يخاطبه صراحةً؟

رُبّ سائلٍ أن يسأل: لم جعلها الله على شكل رمز ولم يخاطبه صراحةً: يا أحمد الخلق يا لطيفاً يا محموداً.
المراد من ذلك أن يتيقظ التفكير فتفهم المعاني. فكل سورة جعل الله تعالى لها مفتاحاً فإذا سمع هذا المؤمن نداء الله لرسوله واصفاً إياه بأعلى صفات الكمال فعندئذٍ ترتبط نفسه بنفس رسول الله ﷺ برباط المحبة والتقدير لهذا الرسول الكريم وتراه يقرأ الآيات التالية كلها مصاحباً لتلك النفس الطاهرة لا ينفك عنها وتلك هي الشفاعة في معناها الصحيح صحبة تلك النفس المؤمنة لنفس رسول الله ﷺ الزكية الطاهرة وارتباطها بها برباط الاستنارة والإجلال والتقدير والمحبة.

إذاً فأوائل أحرف السور الواردة في القرآن مثل: (الٓمٓ، كٓهيعٓصٓ، الٓر، طه، يسٓ، نٓ...) وغيرها إنما هي عبارة عن صفات عالية لرسول الله ﷺ جاءت على شكل رموز لكي نتدبرها فنفهمها وتحثنا على التفكير وتقدير رسول الله ﷺ لندخل بواسطته على الله تعالى، وننال الشفاعة النفسية الحقَّهْ، فأحرف أوائل السور عبارة عن مفاتيح لسور القرآن، ورموز لإدراك معاني القرآن بعدها بالتفكير المستنير مع الفاتح ﷺ لما أُغلق والخاتم لما سبق ناصر الحق بالحق والهادي إلى صراط الله المستقيم.

فالسورة من القرآن الكريم إنما هي تلك الآيات المجموعة بعضها إلى بعض وذات الدلالة العالية فهي في ترابط آياتها وفي إحكام نظمها وتسلسل المعاني الواردة فيها ودورانها حول هدف وغاية واحدة وكون ما فيها من الدلالة حصناً حصيناً يحفظ الإنسان الذي يلجأ إلى العمل بها من الوقوع في المصائب والمكاره، هي في ذلك كله أشبه بالسور يحيط بالمدينة فيحفظ أهلها من كل مكروه، وهكذا فكل سورة من القرآن الكريم إنما هي حديث متصل يحدِّثك به خالقك ويبدأه بمقدمة ثم يفصِّل لك الحديث ويورد لك بعض القصص أحياناً تأييداً لما ورد من معانٍ ودلالة، ثم يختم لك الحديث الذي بدأه بخاتمة مناسبة للسورة، فمن كان قريباً من خالقه مقبلاً عليه بنفسه بمعيَّة رسوله ﷺ أدرك المعنى الكلي للسورة وفهم المراد منها ثم وجد ذلك الارتباط بين آياتها. ومن لم يكن له ذلك القرب والإقبال والصحبة لم يدرك من هذا شيئاً قال تعالى مشيراً إلى هذه الناحية بقوله الكريم: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [سورة فصلت: 44].

لقد بيَّن العلاَّمة الجليل محمد أمين شيخو معنى كلمة {الٓمٓ}.. كذلك بيّن لنا ما بيَّنه من مفاتيح السور بقربه العالي من ربه وطهارته النفسية وأفكاره المستنيرة، إذ شرح معاني أوائل الأحرف كلها مثل:

(كٓهيعٓصٓ): يا كامل، يا هادي، يا عين بكَ يُرى الحق، يا صادق كل ذلك نلته بصدقك، كمالك جعلك تتطلب هداية الخلق.
(الٓر): (ا): أي يا أحمد الخلق، (ل): يا لطيف، (ر): يا رحيماً بعبادي وخلْقي.
(الٓمٓر): الله تعالى ينادي حبيبه: (ا): يا أحمد الخلق، (ل): يا لطيفاً صرت شفيعاً للعالمين، (م): يا محموداً عند خلقي، (ر): يا رحيماً بعبادي.
(طه): يا طاهراً طهارتك أهّلتك لأن تكون هادياً، وكذلك (يسٓ) وغيرها.. وهذا ما لم يبينه الأوائل.

ومما يلفت نظرنا أن معظم السور القرآنية المبتدئة بحروف مقطعة تحوي الكلمات التالية لها على كاف المُخَاطَبْ وهو رسول الله ﷺ كما في سورة آل عمران: {الٓمٓ، اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ..}.
وفي سورة الأعراف: {الٓمٓصٓ، كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ..}.
وفي سورة الشعراء: {طسٓمٓ، تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ..}.
وفي سورة القصص: {طسٓمٓ، تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، نَتْلُوا عَلَيْكَ..}.

أوَ ليس ذلك برهاناً قاطعاً على أن المخاطب بأحرف أوائل السور هو رسول الله ﷺ؟ أوليست هذه صفات ذا الخُلق العظيم ﷺ؟ أبعد هذا الوضوح والبيان بيان!!