{وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ}

يريد الله سبحانه وتعالى في سورة العصر أن يحذِّرنا من تضييع عمرنا سدى، وبيَّن لنا أن هذا العمر كنز ثمين، فإن نحن صرفناه في الدنيا وجمعِ حطامها خسرنا خسراناً مبيناً وكان أمرنا فُرُطاً: ولذلك قال تعالى:

(وَالْعَصْرِ)

ولكلمة (العصر) معانٍ عدة: فهي آخر النهار، وهي بمعنى الدهر، بمعنى اليوم، والمراد بالعصر هنا: عمر الإنسان، تعتصر فيه نفسه، فيظهر خيرها من شرها. وتنكشف حقيقتها وطويتها، وكلمة (العصر) والحالة هذه مفتاح هذه السورة، فبها يستطيع الإنسان أن يُقبل على الله، وبها يستطيع أن يتمثَّل معاني السورة كلها.

فإذا قرأ الإنسان كلمة: (وَالْعَصْرِ)... عرَّفته هذه الكلمة أن له في هذه الدنيا مدةً معلومة، وعصراً معيَّناً، وأن له بداية، وهي يوم خروجه طفلاً إلى الدنيا، ونهايةً ينتهي بها أجله، فيفارق هذه الحياة ويرحل عنها، وبهذا تحصل للنفس موعظةً وذكرى، فهي تَذْكُرُ بدايتها، وأنها من قبل لم يكن لها وجود، ولم تكن شيئاً مذكوراً، والخالق العظيم الذي خلقها وساقها لهذه الدنيا هو الذي يعظها ويُذكِّرها، ثم هي تذكر نهايتها، إذ أن عصرها سينقضي يوماً ما، وأنها لا بد لها من الرحيل والزوال، وعندها تتذكر يوم فراقها فلا تعود تركن إلى الدنيا، ولا تعود تطمع في البقاء فيها، ثم إن كلمة (وَالْعَصْرِ) تُعرِّفنا أيضاً أن هذه المدة التي نقضيها في الدنيا ثمينة وثمينة جداً، فيها يستطيع الإنسان أن ينال سعادة أبدية لا نهاية لها، وبهذه المدة المحددة نستطيع أن نؤمِّن لأنفسنا حياة طيبةً أبداً وسرمداً. فإذا اغتنم الإنسان هذه الحياة، فقد فاز فوزاً عظيماً، وإن هو اشتغل بالدنيا وزينتها، فقد خسر خسراناً مبيناً، ولذلك قال تعالى:

(إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ):

ولعلّك تقول: أي إنسان تعني هذه الآية الكريمة وإلى أي إنسان تشير؟ فأقول:
إنها تعني كل فرد منّا، نحن بني الإنسان، فأنا وأنت لا بل كل واحد منَّا مشمول ومعنيُّ بهذا الخطاب، لأن الله تعالى ما جعل السعادة وقفاً على أناس دون أناس وما خص بفضله ورحمته فريقاً دون آخرين، بل إن رحمته تعالى عامّة شاملة يختصّ بها كلّ طالب ومريد، قال تعالى: {..وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} سورة الأعراف: الآية (156).

وهكذا فالله تعالى يريد بكلمة: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ): أن يحذر بني الإنسان كافّة من تضييع هذا العمر، وأن يستحثَّ هممنا إلى اغتنام هذه الفترة الوجيزة من الحياة التي عرف قيمتها أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام ومن تابعهم بإحسان.

نعم، إن الإنسان لفي خسر، لأن الإنسان ذلك المخلوق الذي كرَّمه الله تعالى، ووهبه من الأهلية والاستعداد ما يستطيع به أن يتفوَّق ويتسنَّم ذلك المقام الرفيع الذي يسمو به على سائر المخلوقات، إذا هو لم يُفد من هذه الأهلية وذلك الاستعداد بل ظلّ مستغرقاً في دنياه لاحقاً لشهواته، منحطاً إليها انحطاط الحيوان إلى أن يوافيه الأجل، وتنقضي مرحلة الحياة، فهنالك يندم أشد الندم، ويرى كم فرّط وكم ضيّع على نفسه من خيرات، وما تزال الحسرات تحرق نفسه حتى يوم البعث والنشور. قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} سورة السجدة: الآية (12). وقال تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} سورة غافر: الآية (18).

إنه من عطفه تعالى وحنانه علينا يحذِّرنا من هذه الوقفة المخزية غداً بين يديه، ويوقِّينا من تلك الحسرة التي تنتاب يومئذ قلوب المجرمين... إنه يذكّرنا، فيقول سبحانه: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) لئلّا نضيّع العمر ونقع في ذلك الخسران. هذا وإن الخاسر كلّ الخاسر هو الذي لا يدري بم يصرف هذا العمر.

فما هو يا ترى هذا الخسر؟ وما هو يخسر في الحال والمآل إذا هو ضيَّع هذه الحياة؟

وفي الجواب عن هذا نقول:
إذا أنت نظرت إلى هذا الكون العظيم، وجدت فيه تناسقاً وإبداعاً، وشاهدت في كل ما فيه إحكاماً وكمالاً، وتذوقت نفسك في مشاهد عديدة منه روعة وجمالاً، أفتدري من أين جاء الجمال إلى هذا الكون؟ ومن الذي صبغه بهذه الصبغة، وجعل فيه هذا الجمال وتلك الروعة؟ أوَليست هذه المخلوقات كلها أثراً من آثار الخالق العظيم؟ أوَليس كل ما في الكون نسيج القدرة الإلۤهية؟ أوَليس الجمال الذي نراه، إن هو إلا فرعٌ من أصل، وأثر من عين؟

وإذا كان جمال المخلوق يستهوي قلوبنا، ويملأ بروعته نفوسنا، ويسحر أفئدتنا، فماذا نقول في جمال الخالق جلَّ وعلا؟

لقد ذكر لنا تعالى في سورة يوسف عليه الصلاة والسلام أن النسوة اللاتي قطَّعن أيديهن لـمَّا خرج عليهن ذلك الإنسان الكريم ما درين ما فعلن بأيدهن، وما تألَّمن ساعتئذ، وما توجَّعن، بل استغرقن بجمال مشاهدته عن كل شيء: {..وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَراً إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} سورة يوسف: الآية (31).

فإذا كان جمال مخلوق واحد من مخلوقاته تعالى قد فعلت مشاهدته بهؤلاء النسوة ما فعلت، فما هو يا ترى وضع الإنسان إذا شاهد طرفاً من جمال خالق الأكوان وصاحب الجمال والجلال، أتظن أن الإنسان بمشاهدة طرف من هذا الجمال القدسي عما سواه؟ أتظن أنه ليشعر في مثل تلك الساعة من المشاهدة له وجوداً وأثراً؟

أما سمعت بهذه المشاهدة في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} سورة القيامة: الآية (22-23). أما علمت قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} سورة القمر: الآية (54-55).