إن الأساس في فهم القرآن هو الإيمان بالله ورسوله ﷺ واليوم الآخر إيماناً ذاتياً مبنياً على التأمل في آيات الكون والاستقراء الدقيق لما يقوله تعالى في كتابه الكريم وما يجري على الواقع {..قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ..} سورة فصلت: الآية (44).
ويَكمل الإنسان بالعلم بأسماء الله تعالى الحسنى، أي: شهودها فتستغرق النفس في بحور العلم الإلهي وتتشرَّب الرحمة الإلهية والعظمة واللطف والفضل والكرم والعدل وتشهدها سارية بإغداق الرحمة على كل ما يجري في الكون وكل ما يحدث من أحداث وما يصيب الناس وغيرهم من المخلوقات فتهيم نفوسهم هياماً بحب ذي الجلال والإكرام وبهذا الحب تتشرَّب نفوسهم نوراً تشهد به الحقائق، حقائق الأمور المستكنة وراء الصُور، كما تشهد حقائق معاني كتاب الله من وراء الألفاظ وتدرك المراد الإلهي السامي فتفقه التأويل..
فمن وصل لتلك المنازل والمراتب فهم الراسخون في العلم بأسماء الله الحسنى وتلك أسمى الدرجات والمراتب: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} سورة البقرة: الآية (1-2). {..وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ..} سورة البقرة: الآية (282).
فهؤلاء يعلمون مقام الرسل الكرام ويقرُّون عن شهود بكمالهم وعصمتهم وأنهم عباد مكرمون لا يسبقون الله بالقول فلا يتكلمون بكلمة واحدة إلاَّ بوحي منه ولا يفعلون فعلاً إلاَّ بأمر منه تعالى: {.. بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} سورة الأنبياء: الآية (26-27).
والفاتحة سُمِّيت بفاتحة الكتاب لأنها مفتاح مقاصد المعاني ومبينة أسماء الله الحسنى فَيُرجِعْ كل ما يقرأه من الآيات ويوازن تأويلها مع معاني سورة الفاتحة التي لا تخالف اسم الرحمن أو اسم الرحيم أو الحمد الإلهي الساري في الوجود، إذ الحمد هو الثناء النفسي لمن حقّاً يستحق الثناء، من يرفد الجميع بنعمه ويكلؤهم بدوام عناياته وإمداده..
والراسخون في العلم هم الذين يعلمون مقام رسول الله ﷺ ويشهدونه شهوداً نفسياً يقينياً وهو يتلو عليهم أثناء الصلاة بفاتحة الكتاب التي خوَّله الله تعالى بقراءتها على المصلِّين الواصلين بدلالة الآية: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ}: يا محمد. {سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} سورة الحجر: الآية (87): وهذه وظيفته ﷺ إلى الأبد. لا بدَّ دوماً من ارتباط نفسي بالسراج المنير ﷺ فتبدو المعاني واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار. {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} سورة سبأ: الآية (6).
هؤلاء يعلمون ترابط آيات القرآن وبأنه كتاب أحكمت آياته ثم فصِّلت من لدن حكيم خبير ويفقهون معاني الآيات المتشابهات فيتجنَّبون الضلال بالتأويل بالرأي الذي لا يخلو من الأهواء مهما بلغ الإيمان بشخص من غير الرسل والأنبياء، لذا فهم بهدْيِ الرسل يؤوِّلون فلا يخطؤون، ولا يجعلون القرآن قراطيس، أي لا يشرحون الآية لوحدها دون ربطها بما قبلها وما بعدها.
فالتأويل الصحيح الذي لا ريب فيه يجب أن تتوفَّر فيه الشروط الأربعة التالية:
1ـ ألا يناقض القرآن بعضه بعضاً بل يكمل بعضه بعضاً.
2ـ أن ينزِّه التأويل الحضرة الإلهية، بحيث لا تتنافى الشروح وأسماء الله الحسنى.
3ـ ألا يتنافى التأويل وكمال رسل الله الكرام عليهم الصلاة والسلام، لأن الله اصطفاهم عن علم ولأنهم لا يسبقونه بالقول ولا بالوحي.
4ـ ويعتمد تأويلهم على وحدة الموضوع في السورة الواحدة وفي القرآن ككل.
تلك هي الشروط المطلوب توافرها للتأويل الصحيح للقرآن الكريم.
حيث أن عدم تدبر الكثير من الناس لآيات الله جعلهم يقعون فيما وقعوا به من ضلال في الفهم فسُئِلوا فأفتوا بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير فضلُّوا وأضلُّوا كثيراً عن سبيل الله، ورسوله الكريم ﷺ يقول: «إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين» الجامع الصغير 2563ت.