{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}

يريد الله تبارك وتعالى في هذه الآيات الكريمة من سورة التين؛ أن يعرِّفك أيها الإنسان بنفسك، فذكر لك ذلك المركز العالي الذي أقامك به بين سائر المخلوقات وأراك منزلتك في هذا الكون العظيم، وأنك فيه أحسن تقويماً من بين كل هذه المخلوقات ولذلك قال سبحانه:

﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾

فالله سبحانه خلق الإنسان في أحسن تقويم بما جعل فيه من القابلية للتحلِّي بالفضيلة والكمال، والله تعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم بما فطره عليه من الاستعداد لاشتقاق الصفات الكاملة من ربه اشتقاقاً عجزت عن الوصول لمثله كل المخلوقات.

والله تعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم بما جعله فيه من الأهلية لمعرفة الذات العلية معرفة عالية قصرت عنها أنفس الملائكة الكرام، فلا السماء ولا الأرض ولا الجبال ولا البحار ولا الشمس ولا القمر حتى ولا الملائكة المقرَّبون بأقدر على تحمُّل التجلِّيات الإلهية وشهود الكمالات التي تدل عليها أسماء الذات العلية من نفس هذا الإنسان، وفي الحديث القدسي:

"ما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبديَ المؤمن"

فالله سبحانه وهب هذا الإنسان من الفكر والملكات وأعطاه من البصائر، وساق له من الآيات، وجعل له نفساً أشد قدرة وأصلب عوداً وأكثر تحمُّلاً من أنفس جميع المخلوقات، وإلى جانب ذلك كله منحه الحرية في الاختيار ولم يَكِلْ أمره إلى أحد كما هو عليه حال الحيوانات، فلعله بذلك يستطيع أن يشهد كمالات ربه تعالى، وأن ينعم برؤية أسمائه الحسنى رؤية تجعله يسبح في ذلك الكمال ويتمتع بذلك الكنز العالي دهر الدهور وأبد الآباد. وفي الحديث القدسي:

"كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أُعرف فخلقت الخلق وعرَّفتهم بي فبي عرفوني"

فإلى ذلك خُلِقتَ أيها الإنسان، ومن أجل التمتُّع بذلك الكنز أوجدك ربك، ووهبك ما وهبك من فكر وإدراك وملكات. وأنت في أحسن تقويم لتستطيع السمو بنفسك سمواً لا يدانيك فيه مخلوق. فإن أنت أقبلت على ربِّك وتعرَّفت إليه فقد فزتَ بالسعادة الأبدية والحياة السرمدية. وإن أنت أعرضتَ فقد خسرت نفسك وما أعدَّه لك ربك من عطاء في الجنان وأصبحت مع أسفل السافلين من المخلوقات، قال تعالى:

﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾

ولتفصيل معنى هذه الآية الكريمة نقول على وجه المثال:
هب أن ضبعاً وقع في قبضة إنسان، فانظر كيف يجد هذا الإنسان الضبع منحطاً دنيئاً لما ينبعث عنه من رائحة منتنة ولما كان يصدر عنه من الأذى. ثم انظر كيف يرى هذا الضبع نفسه في يد ذلك الإنسان مُحتقَراً وضيعاً. كذلك حال المعرض بعد موته، وفي القيامة حيث تظهر أعماله المنحطة، وتنكشف حقيقته الدنيئة المنتنة، فيراه الناس حقيراً سافلاً، ويجد نفسه خبيثاً منتناً فيتألم من ذلك ويتقزز. ويشمئز منه الناس ويتقززون، ويشتد عليه الأمر ويسوءه هذا الحال فلا يجد لنفسه إلا النار، فهو يطلب النار بحريقها ليمحو بها نتن رائحته وليداوي بها خبيث مرضه. وإنه وهذا حاله لا يطمع في الجنة حيث يرى نفسه بأنه غير لائق بها ولا جديراً بأن يكون من أهلها الأطهار الأصحاء.

وتمثيلاً لحال ذلك المعرض نقول:
هب أن امرأة خلقها الله على أبدع صورة وأجمل هيئة، ثم إنها أصابها المرض فظهرت في وجهها دمامل منتنة تقيَّحت وراح صديدها المنتن يسري، فهل تطمع هذه المرأة بعد أن أصبحت فيما أصبحت به أن تذهب إلى مجتمع فيه النساء الصحيحات؟ وهل تجدها تحب أن تجلس بين الناس؟ أعتقد لا... لأنك تجدها خجلى بعلَّتها، متقززة من نفسها لا تحب إلاَّ أن تكون في مستشفى تُداوى به، وهي ممقوتة في نظر نفسها وفي نظر غيرها.

وكذلك حال كل معرض عن أمر ربه مخالف لخالقه، فهو يُردُّ أسفل سافلين. وتمتد به هذه السفالة ويستمر عليه ذلك الحال إلى أن يُصار به إلى النار حيث المعالجة والمداواة.

أما المؤمن الذي قدَّم صالح الأعمال ولم يلوِّث نفسه بدرن المعاصي والآثام فتستمر عليه النعمة، ويدوم له الإكرام الإلهي فينزل بعد الموت في حالة أرقى ونعمة أعظم وأسمى، قال تعالى:

﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾

فهم في حياة أسعد من حياتهم الأولى. (فلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ): أي غير ممتن عليهم به، بل يكرمهم ربهم بما يكرمهم مكافأة على ما قدَّموه من العمل الصالح وجزاءً على ما أسلفوه من الإحسان.