(مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى)

يُريد الله تعالى في سورة الضحى أن يُبيِّن للإنسان دوام عنايته به، وأن يُعرفه باستمرار رعايته له وعطفه عليه، ولذلك فإنه سبحانه بدأ هذه السورة الكريمة ببيان فضله العالي فيما خلقه لك، وفيما أكرمك به، ثم بيَّن لك أن الذي عُني بك هذه العناية، وأنّ الذي ساق لك هذه النعمة الكاملة، ما يكون له أن يتركك ويهجرك، ولذلك قال جلّ شأنه:

﴿وَالضُّحَى، وَالليْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾

وبعد أن فهمنا مُجمل هذه الآيات، نُفصِّل بعض التفصيل، ونُمهِّد بشيء من الشرح اللغوي، فنقول: الضُّحَى: هو البيان والظهور، يُقال: ضحا الشيء: إذا انكشف واستبان. والطريق إذا بدا، وَالضُّحَى: في هذه السورة إنما تشير إلى الظهور والبيان الذي يرافق طلوع الشمس وإشراقها.

فهذه المخلوقات التي تراها على أتمِّ صورة وأكمل حال، هذه الأنظمة التي يسير عليها الكون دون أن يتسرَّب إليه أي خلل أو نقصان، هذه الدقة في التكوين، هذا الجمال والتنظيم، هذا الخلق التام البديع. وإن شئت فقل: كل ما يظهر ويبدو، وكل ما يمكن أن تراه إذا طلعت عليه الشمس ينطوي تحت كلمة: (وَالضُّحَى).

أمَّا كلمة: (الليلِ): فإنها تشير إلى ما ينبعث عن الليل وما يرافقه من فوائد يتم بها السير والتنظيم، ففي الليل إذا سجى: أي: إذا غطَّى الكون بظلمته تتلطَّف حرارة الجو، ويُخيِّم السكون والهدوء، وفي ذلك ما فيه من معونة على نمو النبات ونضج الثمار، وفي ذلك معونة للإنسان والحيوان على الراحة وتجديد النشاط إلى غير ذلك من الفوائد التي لا يستطيع أن يحصيها الإنسان.

وبناءً على هذا، ومن بعد هذا البيان، لا يمكن وما يكون لهذا الخالق العظيم الذي خلق لك هذا الكون كله وسخَّر لك جميع ما فيه. ما يكون لهذا الخالق الذي عُني بك هذه العناية أن يتركك ويقليك.

﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾

إذا كنا لا نتصوَّر أن يبني الإنسان بيتاً حسناً يزيِّنه بأجمل زينة ويُهيِّئه التهيئة التامة ثم ينصرف عنه مُولِّياً ويهجره خالياً، فكيف يتصوَّر أن يُهيِّء لك ربُّك هذا الكون كله ويسخِّر لك ما فيه جميعاً ثم يذرك وحيداً ويهجرك. ذلك ما نفهمه من آية: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾: إذ أن التوديع: هو الترك، والقلي: هو الهجر، تقول: قلى فلان فلاناً، أي: هجره وانصرف عنه مولِّياً.

وبعد أن بيَّن تعالى ما بيَّن من فضله عليك فيما خلقه لك في هذه الدنيا أراد أن يبيِّن لك أن ما أعدَّه في الآخرة من النعيم وما هيأه لك فيها من الإكرام أعظم وأبقى، ولذلك قال تعالى:

﴿وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى﴾:

فإن أنت أصغيت بأُذنك إلى نصحه وإرشاده تعالى، إذا أنت اتَّبعت أوامر خالقك فزت بالسعادة وأعطاك ربك ما تحب وترضى.

ولذلك قال تعالى:

﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾:

وهكذا... فسبحانه وتعالى ما يكون له أن يتركنا ويهجرنا وقد خلق لنا ما خلق وأكرمنا بما أكرمنا، بل إنه تعالى دائم العناية بنا باسطٌ يده أبداً بالتربية والإمداد علينا.