السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ورد في القرآن الكريم عن خلق الإنسان آيات كثيرة مختلفة:
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ} سورة المؤمنون (12).
{إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ..} سورة الإنسان (2).
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} سورة الفرقان (54).
{إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} سورة الصافات (11).
{وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} سورة نوح.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} سورة الحج (٥).
وسؤالي الأول: لماذا ورد أحياناً أن خلق الإنسان من ماء وأحياناً من تراب وأحياناً من طين أو من صلصال وما الاختلاف بينهم؟
والسؤال الثاني: ما معنى: (مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ)، (نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ)، (طِينٍ لَازِبٍ)، (صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ)، (فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً).
وجزاكم الله خيراً.
أولاً: لم ورد أحياناً أن خلق الإنسان من ماء وأحياناً من تراب وأحياناً من طين وما الاختلاف بينهم؟
ليس هناك اختلاف إنما وفاق واتفاق وهذا التعداد ليس إلا مراحل وأطوار مرَّ بها الإنسان، كما ورد في الذكر الحكيم عن سيدنا نوح قوله لقومه: {مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} سورة نوح: الآية (13-14).
فالإنسان ذرة بهذا الكون وهو من الكون، وجسمه من مركبات الأرض فكل إنسان تمَّ خلق جسمه من مركبات الأرض ومن المعادن التي في التراب التي تنقلب زروعاً وأثماراً، علماً أن الإنسان ليس فقط جسماً بل هو جسم وروح ونفس وجسمه من دم وأعصاب. والآن هذا التركيب الجسمي، ولأن الإنسان يدخل في تركيب جسمه المعادن كالحديد والنحاس والكالسيوم وغيرها، فهو متوافق في تركيب جسمه مع مركبات الأرض من أجل أن يتآلف معها ويستطيع أن يعيش في هذه الحياة المادية ليؤدي الوظيفة التي خلق من أجلها، فهذه المركبات والمعادن التي في التراب انتقلت إلى صلب الأب عبر الطعام وهي على شكل أطعمة مشتقة ومستخرجة من ماء وتراب، أي من طين كما في الآية: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ} سورة المؤمنون: الآية (12). ولأن التراب لوحده لا يكفي لابدّ من الماء، فتراب وماء أصبح طيناً انتقلت المعادن والمركبات الموجودة في الأرض عبر الأطعمة والفواكه والثمرات والخضراوات وأكلها الأب فتحلَّلت وتحوَّلت وتشكلَّت خلاصتها نطفة في صلب الأب.
فليس هناك أي اختلاف إنما توافق واتفاق وما هي إلا أطوار ومراحل مرَّ بها الإنسان، وكما قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ..} سورة الإنسان: الآية (2).
الأمشاج: هي مجموعة المأكولات والزروع والثمرات أكلها الأب فتكوَّنت نطفة في صلبه ثم انتقلت إلى رحم الأم وهناك علّقت في الرحم فكانت علقة، ثمَّ تحوّلت إلى مضغة وهي قطعة لحم، وبدأ ينمو ويتغذى عن طريق أمه إلى أن أصبح جنيناً كاملاً، له عيون وأذنان وأطراف وجزع وأصابع، أي خلقاً كاملاً تاماً.
وعن كلمة (أمشاج) أيضاً: فهي جمعٌ مفرده (مشج)، والمشج: هو أيُّ شيئين اختلطا وامتزجا. ويكون ما نفهمه من كلمة أمشاج هي مجموعة المأكولات والزروع والثمرات وخلاصتها كما ذكرنا من قبل.
ثانياً: بالنسبة لمعنى (مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ):
المضغة: هي قطعة لحم تنقسم قسمين:
مخلقة: يتشكَّل منها الجنين والذي تظهر فيه معالم الإنسان، فتكون هذه المضغة مخلّقة، والقسم الآخر:
غير مخلقة: وهي الخلاص "المشيمة" للتغذية، لتغذية الجنين داخل الرحم.
إذن: (المضغة المخلقة): هي الجنين الكامل الخلق ذكر أو أنثى.
و(غير المخلقة): هي الخلاص "المشيمة" وهذه بعد الخروج من الرحم لا حاجة لها.
و(النطفة): يقولون في العلم الحديث عن النطفة: (حيوان منوي). ولكني لا أوافقهم بذلك، لأن الحيوان ينجب حيوان ولا ينجب إنسان، والإنسان لا ينجب حيوان.
أما نحن نعرف أن النطفة تخرج من الماء الصافي النقي الطاهر.
وهناك (الناطف) نوع من الحلوى مشهور بالشام وحلب يُعرف بطعمه الحلو ولونه الأبيض كأنه نوراني ومذاقه الطيب اللذيذ، ولفظة كلمة (الناطف) من الناحية اللغوية مشتقّة لفظياً من (النطفة)، فهناك تماثل بالصفات من حيث الطهارة والنقاوة والصفاء بين لفظ الناطف ولفظ النطفة، فالنطفة من الماء الطاهر النقي إذا وضعها الإنسان بالحلال، أما إذا وضعها بالحرام فهو يشمئز منها وينفر ويغسل يديه من أثرها، والحقيقة أنه ينفر من عمله.
{أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ، أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} سورة الواقعة: الآية (58-59): هذه النطفة ستحاسبك غداً يوم القيامة لِمَ ظلمتها ووضعتها في غير موضعها ولابدَّ من ذلك لأن الله أتبع قوله العزيز بآية {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} وغداً المحاسبة.
والنطفة هي خلاصة المأكولات ومشتهيات الدنيا تتحوَّل وتصبح نطفة في صلب الأب، وهي طاهرة نقية.
طين لازب: هو الطين اللاصق، أي لازق. فأنت يا إنسان أصلك من تراب وماء أصبحت طيناً إذا وطأه الناس يلصق بأحذيتهم، وبالآخرة يقول المعرض: {..يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً} سورة النبأ: الآية (40). وإن تعلَّقت بالدنيا ولم تنهض بالإيمان إلى جناتك التي تخليت عنها فتذكر أصلك الجسدي الذي هو من طين يلصق بأحذية الناس، فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان، فبِمَ تعتز وتتمسَّك؟ وبأي شيء تتكبّر وأنت تنشأ من الأرض وترابها وستعود إليها لا محاله؟! قال تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} سورة طه: الآية (55).
إذن: ستعود إلى الله، فلِمَ لا ترجع من الآن بنفسك إليه تعالى لتنال ما أعدَّ لك مما لا عين رأت ولا أذُن سمعت ولا خطر على قلب بشر، بدل أن تلصق نفسك بالدنيا ومشتهياتها التي هي من طين ومنتوجاته، وستعود بجسمك طيناً.
صلصال من حمأ مسنون: أي أن الله تجلَّى على هذا التراب، وذاك التجلِّي كان فيه حموٌ "أي حرارة"، فغدا التراب صلصالاً نقياً طاهراً خالياً من أي شائبة ذا صوت رنان "له صليل"، وذاك ما يحدث للطين حين تعرّضه للحرارة فيغدو فخاراً خالصاً من الشوائب {خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} سورة الرحمن: (14).
مسنون: تقول سن السيف، أي: شحذه وشذبه وأزال ما عليه من الصدأ والنتوءات حتى أصبح سيفاً مصقولاً نقياً قاطعاً. وكذلك عندما تجلّى الله على هذا الإنسان لخلق جسمه غدا طاهراً نقياً، لم يجعل فيه شائبة، عنده القابلية والأهلية من كل ناحية.
إذن: أصل الجن من نار السموم وهو أصل نقي، وكذلك أصل الإنسان طاهر نقي، فلماذا تكبَّر إبليس بأصله وادّعى أن أصله أرقى وأنقى والآية تنفي هذا الادعاء؟! {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} سورة الفرقان: الآية (54): هنا يلفت الله نظر الإنسان لكي يتفكر بهذه الآية، فهذا الماء لا بصر فيه ولا سمع ولا أي نوع من أنواع الأحاسيس، كيف حوّله الله وأنشأه حتى صار بشراً سوياً ذا سمع وذا بصر يتكلّم ويدرك ويحسّ بما حوله؟! فمن الذي وضع فيه هذه الأحاسيس وجعل فيه هذه الملكات والقدرات فتراه بشراً كامل الهيئة تامّ التركيب يفكّر ويسمع ويتكلّم وكان قبل ذلك ماءً لا شيء فيه؟! فمن الذي أمدّه بالروح والحياة والقيام والنماء؟ فما أعظم هذا الرب؟! وجعله ذكراً وأنثى.
{..نَسَباً..}: أي ولد ينسب إلى أبيه ويكون أقرباء بالنسب. {..وَصِهْراً..}: الأنثى، البنت حينما تتزوج يكون زوجها صهراً للعائلة. فمن الذي وضع هذه الروابط وتلك العلاقات بين بني البشر؟! ألا تفكّر يا إنسان حتى تتوصّل إلى تلك اليد التي تخلق وتربي.