السلام عليكم ورحمة الله وبركاته سؤال: كيف أؤمن أرشدوني خطوة بخطوة قولوا لي افعل كذا لحين كذا وبعدها كذا وكذا.
أولاً: على الإنسان أن يختار وقتاً للتفكّر في خلق السموات والأرض يكون فيه صافي النفس والذهن غير منشغل البال بالأعمال وبهذه وتلك، مثلاً في جوف الليل بعد نوم مريح للجسد.
وعلى الإنسان أن يتفكّر في مصيره المحتوم في هذه الحياة وإلى أين هو ذاهب في غياهبها المجهولة!
وما ذاك إلا لتوقن نفسه من فراق هذه الدنيا الذي هو حتماً لابدّ منه فلم يخلد أحد قبله، لا فقير ولا سلطان ولا نبي، هذه نهاية محتومة عندها لا يبقى لديه أدنى انشغال بزخرفها ومتاعها الزائل. وبهذا التفكير يتم اجتماع النفس مع الفكر ويكون التفكير بهذه الحالة مجدياً منتجاً للعقل، إذ لا يمكن للنفس أن تعقل حقيقةً ما وتتمثّلها إلا إذا كان لها اهتمام بالغ بها.
واهتمام النفس بحقيقة الإيمان لا يتم بشكل أو بآخر إلا إذا قرّرت الأخيرة معرفة أسرار الوجود وحقيقة ومغزى خلق الإنسان فيه والتعرف على مبدعه ومسيره العظيم؛ وهذا لا يحصل إلا إذا أيقنت النفس بأن لها يوماً ستفارق في هذه الحياة وترحل عنها إلى دار لا تعلم عنها شيئاً، بل يجب أن تعلم عندما تتوصل لوجود الإلۤه شهوداً.
ثمّ يبدأ الإنسان بأن ينظر في نفسه ويتفكّر في ذاته ممّ خُلق، وكيف تكوَّن في بطن أمه حتى صار إنساناً سوياً. وعليه أن يتابع بفكره الأطوار التي تنقَّل فيها والمراحل التي مرَّ عليها فمن نطفة إلى علقة، ومن علقة إلى مضغة، ومن مضغة إلى إنسان سويٍّ كامل الهيئة تام التركيب يحار الفكر في كمال صنعه ويقف حائراً أمام عظمة كل جهاز من أجهزته وحاسة من حواسِّه ولا يسعه إلا أن يخرَّ ساجداً لعظمة تلك اليد التي عملت على تكوينه وإحكام صنعه.
فإذا ما نظر في نفسه هذه النظرات جنيناً في بطن أمه وأتبعها بنظرات أخرى تدور حول أيام طفولته الأولى مولوداً صغيراً يوم كان يأتيه الغذاء من ثديي أمه لبناً سائغاً كامل التركيب في المقدار منظّم المعايير متوافقاً في نسبته الغذائية مع تدرجه في النمو يوماً بعد يوم بحسب ما يتطلبه جسمه ويحتاج إليه. أقول: إذا نظر الإنسان في نفسه هذه النظرات، وفكَّر هذا التفكير وتابع ذلك وتوسَّع فيه لا شك أن تفكيره هذا يرشده ويهديه إلى أن هناك يداً عظيمة صنعته وخلقته وعنيت بتربيته منذ أن تشكَّل وخرج إلى هذا الوجود وهي ما تزال مستمرة العناية به قائمة بالتربية عليه. إن هذه النظرات في البداية وفي أصل التكوين لها أثرها لا بل عليها يتوقف الإيمان بالمربي. ومن لم ينظر هذه النظرات في أصله، ومن لم يتعرَّف إلى بدايته فما هو من الإيمان الصحيح اليقيني بربه في شيء.
قال تعالى معرِّفاً إيانا بطريق الاستدلال على معرفة المربي بما أشارت إليه الآيات الكريمة في قوله سبحانه: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ، ثُمَّ السَّبيلَ يَسَّرَهُ} سورة عبس: الآية (17-20).
{فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُلْبِ والتَّرَائِبِ} سورة الطارق: الآية (5-7).
{وَلَقَد خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً في قَرَارٍ مَكينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقينَ} سورة المؤمنون: الآية (12-14).
ثانياً: أما وقد عرف الإنسان خالقه ومربيه وتبدَّت له عظمة ربّه فلا شكَّ أن ذلك يقوده إلى التوسُّع في التفكير وينتقل به إلى النظر في نهايته كما نظر في بدايته فيتساءل في نفسه؛ ما بال فلان قد قضى نحبه؟ وما بال فلان لم يطل به أمد الحياة؟ وأين فلان وفلان وما بقي لهؤلاء الذين فارقوا هذه الحياة من العزّ والسلطان؟ وأين هم من متع الحياة وشهواتها وجميع ما فيها من ملذَّات؟ وإذا كان الموت نهاية كل إنسان ومصيره المحتوم وإذا كانت مساعي الإنسان جميعها تصل به إلى هذه النهاية مهما امتد العمر وطال، فما في الحياة من أمل، والخاسر الذي يسترسل فيها دون أن يتعرَّف فيها إلى ما وراءها.
وهنا وبمثل هذا التفكير في النهاية، والمصير إلى القبر وما فيه من رهبة ووحشة تخاف النفس مجدّداً وتلتجئ إلى الفكر بصدق كبير لكي تتعرّف بواسطته إلى الحقيقة. فلمَ جاء الإنسان إلى هذا الوجود؟ وما هذه اليد التي خلقته وأرسلته إلى هذه الدنيا ثم كتبت عليه الموت ومفارقة الحياة؟! وينشد الإنسان هذا النوع الجديد من المعرفة ناظراً في أصله لما كان نطفة فيقول: هذه النطفة التي منها أنا، منها خلقت وتكونت، إن هي إلا خلاصة ألوان شتى من أطعمة وفواكه وأثمار تجمّعت هذه الخلاصات ومنها خُلقت، فمن أين جاءت هذه الأطعمة؟ ومن الذي خلق هذه الفواكه والخضر والألوان؟ وما هذه البذور المختلفة؟ ومن أين جاءت؟ ومن الذي ألقى بها على سطح الأرض؟ ما هذه التربة التي اشتملت عليها؟ وكيف تكوَّنت؟ ما هذه الأنهار؟ ما هذه الأمطار؟ ما هذه الشمس؟ ما هذا الليل والنهار؟ ما هذا السير الدائم؟ ما هذه الحركة المستمرة المنتظمة في هذا الكون؟ ما هذه الدورات المنظمات؟ بل ما هذه اليد التي تدير هذا كله لتتأمن حياتي ولتتوفر أقواتي ويستمر وجودي؟ أليس هذا الكون كله وحدة مترابطة الأجزاء متماسكة الأجرام؟ أليس ذلك كله يعمل ضمن قانون ونظام؟ أما لهذا الكون من يديره! وقدرة عليا مهيمنة تشرف على ملكوت السموات والأرض ولا يعزب عنها من مثقال ذرة! وهنا ينتقل هذا الإنسان إلى هذه النقطة الجديدة فتعقل النفس عظمة هذه الإرادة العليا، والقدرة التي لا حدَّ لها والتي نظَّمت الكون بما فيه عُلْويّهُ وسفليّه، جليله وحقيره، صغيره وكبيره تدرك النفس طرفاً من عظمة الله تعالى وتعرف أنه لا مسيّر غيره ولا متصرف في هذا الكون إلا الله إنها تدرك حقيقة كلمة (لا إلۤه إلا الله) فتعلم أن التصرُّف بيده وحده وليس لأحد من حول ولا قوة إلا به وليس من حركة إلا بإمداده ومن بعد إذنه.. فلا تهب رياح ولا تتراكم غيوم ولا تهطل أمطار، ولا تشرق شمس ولا تدور أرض ولا يتعاقب ليل ونهار، ولا تدب دابّة، ولا تنبت نبتة، ولا تنعقد ثمرة، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه تعالى ومن بعد إذنه. ويتسع أفق التفكير لدى هذا الإنسان فيرى أن اليد لا تتحرك حركة وأن الرجل لا تنطلق خطوة، والعين لا تطرف طرفة، والأذن لا تسمع همسة، واللسان لا ينطق ويلفظ كلمة إلاَّ بإذن الله وبحول وقوة منه. فهو مسيّر الكون ومسيّره وممدّ الكون، وهو الإنسان جزء من هذا الكون فهو بيد مسيّر الكون وممدّه، والإلۤه قريب وحتماً مع الكون ومعه.
يدرك هذا الإنسان ذلك كله عندها تدخل النفس في حصن الاستقامة فتجد أن الله تعالى معها ومشرف عليها بل هو الممدُّ لها في كل لحظة وحين لا يحول ولا يزول فحيثما حلَّ هذا الإنسان وارتحل وأينما سار وانتقل. وكيفما نظر وأنَّى اتَّجه يرى الله تعالى معه، وأنه شاهد عليه فهو سبحانه ناظر رقيب، وسامع قريب، وبه قيام وجود الكون بجميع ما فيه وهو أقرب إلى الإنسان من نفسه التي بين جنبيه.
قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَريدِ} سورة ق: الآية (16). هذه هي المرحلة التي يفضي إليها الإنسان، وهذه هي الحقيقة التي يعثر عليها من بعد تفكيره المتواصل يعقلها عقلاً، ويصبح إيمانه بكلمة (لا إلۤه إلا الله) مبنياً على علم ومشاهدة لأنوار الله ولحضرة الله. كما أمر سبحانه وتعالى بذلك، إذ قال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إلۤه إلاَّ اللهُ..} سورة محمد(19).
وهذا النوع من الإيمان هو المطلوب من كل إنسان وذلك هو الإيمان الحق الذي يحجز الإنسان عن المعاصي والموبقات. وفي الحديث الشريف: «كفى بالمرء علماً أن يخشى الله» الجامع الصغير /6240/ للبيهقي في شعب الإيمان، وقال تعالى: {..إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ..} سورة فاطر: الآية (28).
وإلى ذلك أشار صلى الله عليه وسلم بقوله الشريف: «من قال لا إلۤه إلا الله مخلصاً دخل الجنة، قيل: وما إخلاصها؟ قال أن تحجُزَهُ عن محارم الله» رواه الطبراني في الأوسط الكبير.
ولا يحجزه إلا الشهود لوجود الإلۤه ولن يحجز إن كان مسيئاً بعمله أمّا إن كان محسناً ابتغاء رضاء الله فسرعان ما يصل لحضرة الله ويشاهد مشاهدة قلبية يقينيّة تحجره عن كل أذى لأيّ مخلوق فهم صنع ونسيج الإلۤه عندها يكسب الثقة باستقامته وإحسانه {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} سورة الأعراف (56). فتحصل له الصلاة التي تنهاه بما فيها من أحوال وأذواق وبوارق عن الفحشاء والمنكر.
هذه الطريق التي سلكها سيدنا إبراهيم العظيم عليه السلام وكافة الرسل الكرام عليهم السلام. وهذه هي الطريق المشار إليها في القرآن الكريم.