تأويل الآية 109 من سورة المائدة

قال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} ما هو تأويل هذه الآية وأين علمهم ولِمَ لم يجيبوا أو يتذكروا؟ وما ربطها بالآيات بعدها عن سيدنا عيسى؟ ولكن في الآيات التي بعدها سيدنا عيسى أجاب: {..قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ..}، وهل هذه الإجابة قالها أم سيقولها يوم القيامة كما نلاحظ من خلال سياق الآيات بعدها، أم متى؟
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

يقول سبحانه وتعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} سورة المائدة: الآية (109).
هذا يومُ العطاء والنوال، إنه يوم القيامة يوم التفرغ لنيل الجزاء على الأعمال، وإنه يوم الفصل، تفصل به جميع الخلائق فأهل الجنة للجنة وأهل النار للنار.
والرسل العظام الذين قدَّموا حياتهم كلّها في سبيل إنقاذ عباد الله من الظلمات والأخذ بأيديهم إلى مراتع النور والجنات.
هؤلاء الذين ضحّوا بكل شيء، في سبيل مرضاة الله، وظلُّوا طوال حياتهم الشريفة في جهاد عنيف ضد الباطل وأهله، وقدَّموا كل شيء في سبيل هداية أقوامهم قال رسولنا ﷺ: (وهبت روحي وجسدي لأمتي). وكاد أن يذهب نفسه حسرات عليهم ألا يؤمنوا بالله العزيز وكابد الحزن الشديد وأشقى نفسه في سبيل هداية الخلق، يتألم لشقائهم ويحزن لبعدهم، كان ﷺ يعيش من أجل غيره، فلو اجتمعت رحمات الأمهات من عهد أمنا حواء عليها السلام إلى آخر الدوران لا تعدل ذرة من رحمته ﷺ قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} وكذلك جميع الأنبياء والمرسلين.
جاهدوا في سبيل إخوانهم في الإنسانية. واليوم آن أوان العطاء العظيم، إنه يوم التفرّغ من أجل النوال الذي يسبي الألباب ويشده العقول والقلوب جميعاً، بما عملوا وما نالوا في قلوبهم من خيرات، والله يريد أن يعطيهم أجرهم غير منقوص لأن الله شكور، لمّا تجلّى الله تعالى عليهم بعد الفصل بأنواره العليّة وتجلياته السنيّة، طارت نفوسهم شوقاً وهياماً في عطاءات ربهم وجميع الأنبياء من لدن آدم عليه السلام حتى إمام المرسلين سيدنا محمد صلوات الله عليهم أجمعين مفتونون بهذا الجانب العظيم جلّ كرمه تعالى والمقام السامي الرفيع الذي نالوه، فلم يتذكروا شيئاً سوى تجليه عليهم في عروجهم وإقبالهم في حضرة قدسه، وغابوا في حبه تعالى عن كل شيء، إذ أنهم مفتونون في أسمائه تعالى الحسنى وتجلياته الكبرى،
ويريد الله بسؤاله لهم {..مَاذَا أُجِبْتُمْ..}: أن يذكرهم ويعيدهم إلى الوظيفة فهم الشفعاء الذين يرتقون بنفوس أصحابهم في الإقبال على الله فأراد تعالى أن يرجعهم إلى وظيفتهم، من بعد أن صرفهم عن حزنهم على أهل النار بهذا العطاء العظيم الذي أنساهم كل شيء.
وهذا ما ينطبق تماماً على سيدنا عيسى عليه السلام فعندما سأله الله: {..أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ..}، أجاب: {..قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ..} سورة المائدة: الآية (116).
هذه الإجابة من بعد ذلك الموقف الذي أنساهم الله كلّ ما مرَّ معهم ليفيض عليهم بما قدّموا في حياتهم للبشر ومن ثمَّ ذكّرهم وأعادهم للوظيفة في الآخرة، فهنا من أجل أن تقام الحجة على المشركين، أن هذا الذي ادّعيتم أنه إلۤه "عن سيدنا عيسى عليه السلام" أنّه هو بذاته ينفي هذه التهمة عن نفسه ويبرّئ نفسه من شرككم.
والأمر يومئذٍ لله إذ أن الملك له تعالى ولا إلۤه سواه:
{..لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} سورة غافر: الآية (16): عندها  وقد زالت عنهم حجب شهواتهم فتبدّت الحقيقة سافرة.
والحمد لله في بَدءٍ وفي ختم.