تأويل الآيات (18 - 30) من سورة المدثر

بسم الله الرحمن الرحيم
أرجو منكم تأويل الآيات من 18 حتى 30 من سورة المدثر، مع التشكرات لكم: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (٢٧) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ}.

تتحدث الآيات الكريمة من الآية (9) عن حال الكافر عند موته، وتذكير الإنسان بمعاملة رب العالمين له وإكراماته عليه، وتذكره بكافة خيراته تعالى التي يغزوه بها تعالى طيلة حياته، وعند الموت يرى هذا الكافر كل ما قدّم له ربه من فضلٍ ومنّة ويرى تفريطه في جنب ربه، فتعود عليه لحظة الموت بالشدة وتصعقه، إلا أن الملائكة تحوِّله عن حاله هذا وتعالجه: {..الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ..} سورة الأنفال: الآية (50). وهذا ما عنته الآية في قوله تعالى:
9- {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ}: على كافّة الناس عموماً ممن لم يتوصل للإيمان بربه إيماناً شهودياً.
10- {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ}: أما هذا الكافر فلحظة الموت لا توصف بالنسبة له والألم الذي يحلُّ به لا يُعبَّر عنه لشدّة هوله.
لذا يخفف الله تعالى عن رسوله الكريم ويقول له:
11- {ذَرْنِي..}: مع أن رحمتك وسعت الكائنات، لكن رحمتي أوسع وأشمل فاتركه لي، رحمتي وحناني وحبي له لم يتغيّر: أنا خلقته وأنا متكفّل الآن بعلاجه، فدعه لي، ولا تحزن عليه ولا تذهب نفسك عليهم حسرات. {..وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا}: معاملاتي له طيلة حياته تشهد برحمتي وحناني، فمنذ أن كان في بطن أمه لم أتخلَّ عنه طرفة عين في غذائه الذي كان يأتيه بالسر عن طريق حبل السّرة، من كان يساعدني حين خلقت له السمع والبصر والذوق؟ بل من كان يعرف أنه ذكر أو أنثى سواي؟ لو تخلّيت عنه دقائق وعن تحريك قلبه ودقاته، لمات في بطن أمه، ولم أتخلَّ فمحبتي له أكبر وأعظم، إنه صنع يديّ فأنا لوحدي خلقته وحيداً، اعتنيت به تسعة أشهر لم يساعدني أحدٌ، تخلَّى هو عني ولم أتخلَّ عنه، عاداني وجافاني وأكرمته، وكره لقائي ولم أتخلَّ عن لقائه طرفة عين.
12- {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا}: ما تركته من التغذية من أول حياته إلى نهايتها، لا في بطن أمه وحين خرج هيَّأت له الإكرام، لم أتخلَّ عنه لا في نَفَسِهِ ولا في طعامه ولا شرابه، فخلقته على أتمّ صورةٍ كامل الأجهزة والأعضاء، وركَّبت له الأسنان وأذقته جميل بري وتنوع غذائي مدى حياته دون انقطاع.
13- {وَبَنِينَ شُهُودًا}: ألم يرَ ويشهد بأمِّ عينه كيف تمَّ خلق أولاده فلذات أكباده من نطفة؟! إذا كان لا يتذكّر خلق جسده، أفلا يرى خلق أولاده أمامه فيتذكّر بهم كيف هو خُلِقَ؟ ومن الذي صنع له فلذات أكباده سواي؟ ومن يستطيع عمل هذا؟ أما فكَّر بذلك وبهذه الهبات؟ ما هذا الكبر الأرعن؟! ألم يشاهد من أين خرج أولاده من أمكنة قذرة؟! ومنها خرج هو أيضاً.
كل هذه المذكّرات حباً به ورحمةً، كلّها ليتنازل عن طغيانه وتعاليه الأجوف، فلا يتكبر على من أحسن إليه ومن أحبه ورزقه.
14- {وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا}: خلقته ووضعت له الفكر، اكتمل فكره عندما صار عمره ستة عشر وهذا كله تمهيداً لطريق رجوعه إليَّ.
ثمَّ أعطيته ما يحب وما يريد من الدنيا وشهواتها، لكي يعود بعدها للحق والرشد والهدى ولمَّا لم يعد شددت عليه، ولمَّا لم يعد تركته لما أراد.
15- {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ}: يريد أكثر، ولا يشبع من الدنيا، بل يزيد في طغيانه، وبالتالي يعود عليه عمله هذا بالخسران والنيران.
16- {كَلَّا..}: هل تركته يوماً من الأيام؟ هل تخلّيت عنه دقائق؟! لو تخلَّيت عنه لمات من فوره وهذا لم يحدث فما مات إلا بأجله. {..إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا}: رغم كل محبة ربه له، إلا أنه بقي معانداً في صدود عن ربه، ولم يلتفت لداعي الحق وكلام ربه وآياته.
17- {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا}: لذا كان الإرهاق من نصيبه، وكانت الشدائد والعلاجات المرّة والحروب والآلام لزاماً له، لأنه لم يأت بالإكرام، فالشدائد كي تشدّه إلى جادة الصواب. وكلمة: (صَعُودًا) مأخوذة من (الصد والعودة)، فلأنه صدَّ عن العودة جاءه الإرهاق.
18- {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ}: وردت الآية هنا في صيغة الاستفهام الاستنكاري، بياناً أن هذا الكافر الذي ما فكّر ولم يقدّر نعم الله وفضله، بل جحد بهذا كله. فهذه الآية تعطيك سبب كفر هذا المعرض وهو أنه لم يفكّر ولم يقدر.
19- {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}: كان الإنسان في عالم الأزل نفساً مجردة، كلها بصائر وآذان وملكات وحواس، ولكن عندما قدّر شهوته وانقطع عن ربه فقد الحياة المتواردة عليه من ربه، فقتل نفسه لأنه قدر تقديراً خاطئاً قدر الشهوة العمياء، ولم يقدر ربِّه الذي منحه كافة العطاءات، فبانقطاعه عن الله فقد كل شيء وغدا في عماء، بعد أن نفدت شهوته وكانت حجبته عن ربه و جنّته الأولى فخسر كل شيء.
20- {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}: بعثه الله لهذه الدنيا وركَّب له الجسد عوضاً عما فقد، منحه البصر والأذنان والفكر والحواس وكافة الملكات التي يستطيع بها أن يتلافى خسارته الأزلية، كما أعطاه الكون كتاباً مفتوحاً يستقرىء فيه علائم العظمة والحكمة الإلۤهية ليعود للوفاء بدل الجفاء، إلا أن هواه الذي عماه في الأزل بشهواته الدنية عماه في الدنيا أيضاً فقتل نفسه مرة أخرى وخسر الدورة الثانية وبقي في عماء {..فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} سورة الحج: الآية (46).
21- {ثُمَّ نَظَرَ}: بعث الله له الرسل منذرين ومبشرين فنظر في دلالتهم نظرة المتردد الوجل، نظرة الشكوك.
22- {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ}: (عَبَسَ): لم تعجبه، ظنَّها أنها تحرمه الملذّات والدنيا وشهواتها. (وَبَسَرَ): (بس): بمعنى قطع، (سر): من السرور، قطع عن نفسه السرور القلبي السامي  لأنه عبَّ من هذه الدنيا الدنية وشهواتها التي جعلته ينقطع عن دلالة الله ورسوله و عن سعادته الابدية .
23- {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ}: أعطى ظهره لكلام الله ولرسوله واستكبر بدنياه وما لَهُ فيها من عزٍّ وجاهٍ وشهواتٍ وظنَّها باقية.
24- {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ}: كل كلام الرسول غيبيات لا محسوس ولا ملموس، يتكلّم لنا عن الآخرة وما فيها من جنة ونار، وهذا لم نره، يتكلّم لنا عن الله والملائكة وهذا أيضاً لم نره فهو سحر، أمور خفية لا نفهمها.
(يُؤْثَرُ): كل الذين قبله قالوا مثل هذا الكلام وتناقلته الأجيال إلا أنني لا أرى شيئاً منه بل يبقى في إطار الغيبيات المخفيات.
25- {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ}: ينفي هذا المعرض أن هذا البيان وهذه الدلالة السامية هي من عند الله، وهي إنما كلام الله ونداء رب العالمين لعباده، إذ لو أنه أقرَّ بذلك يكون قد ألزم نفسه باتخاذها منهجاً وسبيلاً، لذا تراه يسعى لينفي أن هذا الكلام من عند الله فيقول ما هو إلا قول إنسان عبقري مفكر شأنه كسائر البشر مع أنه يدعو للصلاح والبشرى.
وبهذا النكران وهذا الاستكبار والبعد يقطع نفسه عن طريق العودة إلى الله، سبب ذلك حب الدنيا في قلبه، ولكن ما وراء هذه الأهواء التي ترك الله ورسوله من أجلها إلا الشقاء والتعاسة وسوء المقر (تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار)، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً..} سورة طه: الآية (124).
26- {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}: هذا عند موته سيعود عليه نكرانه وتكذيبه بشديد الحسرة والندامة على ما فرّط في جنب الله، وعلى خسرانه من جنات أعدَّها له، وما آل إليه من منزلة وضيعة وسوء المقر، فالعار الذي يلازمه ونيران الحسرة والندامة تشتعل فيه، أفظع وأشد من كل ألم.
27- {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ}: ما أعظمها على النفس وما أشد لذعها وما أكبرها إنها نار الحسرة والندامة أشد وأفظع من النار المادية المحرقة، فأنت لا تدريها لأنك لم تجاهد هواك الذي منذ الأزل أعماك فلم تؤمن (الكلام للمعرض).
28- {لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ}: هذه النار نار الخسران و الفضائح و العار، تمر على كل عمل عمله في الدنيا لا تغادر مثقال ذرة إلا وتأتي عليه، ويعود لذعها على النفس بعد الموت شديد.
29- {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ}: إلا أن: (قلوب العارفين لها عيون ترى ما لا يراه الناظرون)، فهذه النار تلوح لهم في دنياهم ويشعرون بنار البعد عن الله والشهوات المحرقة والأهواء المهلكة، فتراهم يرون الخير خيراً والشر شراً، وتلوح النار لهم فيستجيرون بالله منها ليقيهم حرها وشوبها. ولكن هؤلاء المعرضين لا يرون إلا شهواتهم وهم في عماء عن النتائج، مخدّرين بالأهواء والرغائب وعند الموت تستيقظ نفوسهم ويالهول ما تستيقظ عليه! وعندها الويلات والحسرات على كل لحظة أضاعوها في غير ما خُلقت نفسه النفيسة الخاسرة لأجله (الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا).