تأويل الآيات (107-108) من سورة هود: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ..}

سيدي الفاضل الأستاذ عبد القادر أدام الله عزكم.
اطلعتُ على تأويل الآية (107-108) من سورة هود والتي ذكر في كل منها قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ..} والمقصود هم الأشقياء والناجحون وقد أُوِّلت بما يلي: (هذه لا تزول، ما فوقك وما تحتك لا بد منه). والآيات على ما يبدو تخصّ يوم القيامة. فهل يبقى سماء وأرض يوم القيامة (كصورة وكحقيقة)؟ هل المقصود بالسماء الأعمال العالية؟ والمقصود بالأرض الأعمال المنحطة؟ أم ماذا؟
أرجو تفصيل ذلك ودمتم.

كل ما علاك فهو سماك وكل ما دونك فهو أرض بالنسبة لك. يقول سبحانه وتعالى:
{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} سورة هود: الآية (106).
بالنسبة للذين شقوا في النار خالدين ما دامت السموات والأرض، فهؤلاء أيضاً مراتب ومستويات، فالمنافقون مثلاً في الدرك الأسفل من النار، وكذلك الذين اتُبعوا لهم ضعف عذاب الذين اتبعوا وهكذا كلٌ حسب أعماله الإجرامية وما قد أسلف في دنياه، وبحسب ما هو متألم، يعطى المناسب له، وطالما أن الإنسان معرض عن الله منبع الرحمة ومانح الحياة والجنات، فهو في هذا الحال من العذاب على استمرار، ومتى تنازل عن كبره الأرعن وأناب إلى ربه الكريم يجد الله غفوراً رحيماً، فيشفيه ويصلح باله ويبدله نعيماً مقيماً. قال تعالى: {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً (70) وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} سورة مريم: الآية (70-72).
وقال ﷺ: (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)، فكلمة: {..إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ..} استدراك، لبيان أن كل علاج على حسب حال صاحبه، فإن أناب المرء إلى ربه ودعاه مخلصاً له، عندها يخرج من صنف المعذبين ويغدو مع المكرمين الصالحين لعطاء ربهم العظيم، وذلك بأن يُذكرهم ربهم ولو بمرورٍ مع أهل الحق في دنياهم، لتكون لهم سنداً لدخولهم في الجنة وذلك بالالتجاء إلى الله بواسطة ذكراهم مع أهل الله ودخولهم على الله بسبب هذا المرور الذي مرُّوا فيه في الدنيا.
{..إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ}: ولا يريد لعباده إلا الخير والسعادة.
{وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ..}: وأهل الجنة أيضاً مستويات ومراتب، فسموات أهل الجنة هم الذين فوقهم، وهم السادة الأنبياء والمرسلون، فهم أسمى وأعلى وأرقى أهل الجنة. وكل إنسان يوجد من هو أعلى منه ومن هو أقل منه بالمرتبة، فالناس درجات وكلُ إنسان وله جنته على حسب حاله، فالذي دونك هو أرض والذي فوقك هو سماء بالنسبة لك.
{..إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ..} استدراك، فالذين في الجنة في عليين أي في جنات عالية من جنة لجنة أسمى وأرقى، بناءً على ما يُعرض لهم من أعمالٍ قدَّموها في دنياهم، وفي الآخرة في الجنة حان أوان جني ما قد زرعوه في دنياهم من أعمالٍ عظيمة وتضحيات كبرى والأعمال تدور أمام ناظرهم، وهم يدورون في أفلاكِ جناته تعالى ويرقون رقياً متواصلاً لا يتناهى، ولكن كيف يستطيع المرء أن يرقى هذا الرقي المتواصل الذي لا يتناهى متنقلاً من جنة إلى جنة أعلى وأسمى؟
أقول: إن الإنسان في هذه الدنيا له فكر وعقل، فبالفكر يتعرَّف إلى الوقائع ويتذكر ما قام به من أعمال وما جرى له من حوادث أما العقل فيشهد به حقائق الأعمال وقِيَمَها الحقيقية التي تؤهّله لأن يُقبل بها على الله. فإذا كان يوم القيامة تعطّل الفكر، إذ لم يبقَ له ضرورة وانكشفت الحقائق للعقل واضحة جلية، وهناك فالملائكة تمرّر على الإنسان سلسلة أعماله التي قام بها في دنياه عملاً بعد عمل. وكلما رأى عملاً من أعماله الصالحة أقبل به على خالقه فارتقى من حال إلى حال، وهكذا حتى تمرّ به جميع أعماله فتعود السلسلة من جديد.
ونظراً لعدم وجود الفكر: عندما تمرّ به الأعمال من جديد فيعقلها ويرقى بها وهو لا يذكر أنه رآها من قبل ويظنها جديدة، وذلك باستمرار فهو متواصل الإقبال، متزايد في الصحة النفسية والتنعّم بمشاهدة ذي الجلال والجمال، إلا أن الأمر يطول والحياة في الجنة لا نهائية سرمدية، فيصل هذا الإنسان لمرحلة من المراحل يعتاد على الجنة التي كان يأخذها استناداً على أعماله، ويعتاد على أعماله تلك التي قدَّمها، وهذا بسبب طول المدى وبسبب تكرارها عليه كثيراً. عندها ينتقل من مرحلة الأعمال إلى مرحلة الصدق، إذ ينتقل في الإقبال بصدق الأنبياء فأضحى صدق الأنبياء يرفعه إلى صدق سيد الخلق النبي الأمي والآن الإقبال على ربه بالصدق لأنه صاحب أهل الصدق وهم الأنبياء والمرسلين {..فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً} سورة النساء: الآية (69).
قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً..} سورة الأنعام: الآية (115).
فكلما صدقوا كلما عدَّل الله أوضاعهم أي رفعهم من حال إلى أعلى.
وقال تعالى أيضاً: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ..} سورة الأحزاب: الآية (24). ويصبح في هذا الحال {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} سورة القمر: الآية (55).
فالصدق غدا هو الدافع والمحرك للرقي في الجنات العلية كما كان الحال مع السادة الأنبياء والرسل في عالم الأزل الذي لم يكن فيه عمل بعد، بل بصدقهم نالوا ما نالوا من المقام السامي والشأن والرفعة وبصدقهم مع ربهم كسبوا عطاءات ربهم الأزلية.
وفي الآخرة بعد أمدٍ طويل يرجع الإقبال بناءً على الصدق بمعية رسول الله النبي الأمي ﷺ كما ذكرنا آنفاً قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} سورة التوبة: الآية (119).
وعندها يكون العطاء مستمر الجريان مندفق باستمرار دون انقطاع أو فتور قال تعالى {..عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ}: أي متواصل لا ينقطع.