{وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا، وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا}

إن النفس البشرية من قوانينها وسننها أنها لا تصغي إلى نصيحة الناصح إلا إذا عرفت محبته لها وعطفه عليها، كما أنها لا تخاف الإنذار ولا ترجع عن غيِّها إلا إذا أيقنت بقوة من ينذرها وقدرته عليها، ولذلك ذكر تعالى في سورة الشمس آيات كريمة تعرِّف النفس عظمة خالقها من جهة، ومن جهة ثانية تعرِّفها برأفته تعالى ورحمته بها وحنانه وفضله المتواصل عليها فقال سبحانه:

﴿وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا﴾:

فالسماء هذه القبة الزرقاء المحيطة بالكون من جميع الجهات من الذي بناها هذا البناء؟ ما هذه القوة العظيمة التي نظَّمتها هذا التنظيم؟ ما هذه القدرة الحكيمة التي أوجدتها على هذا الحال التي هي عليه؟ ثُمَّ:
من الذي زيَّنها بالكواكب تلمع فيها ليلاً؟ من الذي قرن نجومها إلى بعضها وجعل منها بروجاً فإذا هي تسبح مترابطة لا تنفك عن بعضها بعضاً؟ من الذي جعل فيها سراجاً وهاجاً تضيء نهاراً، وقمراً منيراً يسطع ليلاً؟ من الذي يمسك نجومها في هذا الفضاء الواسع، وكم من نجم أكبر من الأرض بملايين المرات!!! من الذي يسيِّر هذه الكواكب جميعها فلا يصدم كوكب كوكباً ولا يخرج نجم عن مجراه قيد أُنملة؟
وهل يستطيع أحد أن يتصوَّر سعة هذه السماء؟ أم تراه عاجزاً عن أن يدرك لها نهاية أو حدّاً؟

فانظر أيها الإنسان إلى السماء متأمِّلاً مفكِّراً لذلك قال تعالى:
{ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} سورة الملك – الآية:4.

وهنالك تعلم أن للسماء خالقاً عظيماً، وإلهاً قديراً، وربّاً ممداً بصيراً. وإذا كنت لا تستطيع أن تدرك سعة هذه السماء وهي من مخلوقاته تعالى، فكيف أنت إذا نظرت إلى عظمة ربك وجلاله الذي لا يتناهى!

وما أعظم هذا الإله الذي خلق الأرض والسماوات العُلى! ثم انظر ما حولك وما قوّتك! وكم أنت مخلوق عاجز وضعيف، وكم هذا الإله الذي خلق السماء وما فيها وخلقك واسع عظيم!

ثم انتقل تعالى بنا إلى الأرض فقال سبحانه:

﴿وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا﴾:

وكلمة (الأرض) إنما تشير إلى الأرض في قيامها محمولة في هذا الفضاء، كما تشير إلى ما تحويه من جبال وبحار وسهول وأنهار ومعادن وأحجار وحيوان ونبات. وأما كلمة (وَمَا طَحَاهَا).. فإنما تشير إلى حال الأرض، وما قامت به من تنظيم بديع، وما هي عليه من خَلْق عظيم، وما ألقاه لك ربك فيها من كل شيء. تقول: طحا الحجر: ألقاه. وطحا الكرة: رماها. طحا فلاناً على وجهه: طرحه في الأرض وألقاه.

ويكون ما نفهمه من كلمة (وَمَا طَحَاهَا) أي: ما هذه القدرة العظيمة التي ألقت في الأرض ما ألقت من جبال! ما هذه القدرة العظيمة التي جعلت في الأرض السهول والبحار! من الذي أجرى في الأرض هذه العيون والأنهار؟ من الذي ألقى في البحر هذه الأملاح فإذا هي تحفظ مياهه من الفساد وتحول دون انتشار البعوض والحشرات؟

من الذي جعل في بطن الأرض ما جعل من معادن نستخدمها فيما نقوم به من الأعمال؟ من الذي جعل لنا في هذه الأرض الأتربة والأحجار؟ من الذي جعل التراب حاوياً المواد الغذائية المختلفة التي تمتصُّها النباتات؟ من الذي جعل مستودعات الماء في القطبين ثم في أعالي الجبال وجعل لمنابعه معايير مناسبة تستطيع معها أن تمدنا بالماء المخزون طوال السنة دون أن ينفذ ماؤها أو يعتريها انقطاع ؟

من الذي بثَّ في الأرض من كل دابة وجعلها كلها خدماً للإنسان فهي قائمة بوظائفها التي يتأمَّن بها الخير ويطَّرد معها النظام وبقاء الحياة؟ من الذي جعل في الأرض أنواعاً من الزروع وألواناً من الثمرات، وجعلها متعددة المنافع، منوّعة الفواكه، ضرورية لحياة هذا الإنسان؟

أفلا تنظر أيها الإنسان في الأرض وما قامت به من ترتيب وما هي عليه من نظام بديع وما ألقاه الله لك فيها من كل شيء فتعلم أن خالقك عظيم وربك رؤوف رحيم!