{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}

بسم الله الرحمن الرحيم.

يريد الله سبحانه وتعالى في الآيات الكريمة التالية من سورة البلد أن يلفت نظر الإنسان إلى ذلك القرار المكين الذي رُبّي فيه يوم كان نطفة وليس له من عين ترعاه أو تُعنى به سوى عين خالقه وإمداد موجده، فقال تعالى:

{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}:

والكبد: هو المجْمع، والمراد به (الرحم) ذلك الوسط المناسب الجامع للشرائط الضرورية لحياة الجنين.
ففي الرحم يجد الجنين الحرارة المناسبة ويأتيه الغذاء اللازم، كما يأتيه الدم حاملاً الغازات الضرورية. وفي الرحم يعوم الطفل محمولاً على المشيمة محفوظاً من دخول الدم إلى فمه.
فمن الذي أوجد لك هذه الشرائط الضرورية للحياة، وجعل لك الرحم مستودعاً أميناً وقراراً مكيناً حتى أصبحت إنساناً سوياً كامل الخلقة؟.
أفتنسى إذا أنت بلغتَ أشُدَّك وصرت ذا قوة وشأن ذلك العطف كله وتلك العناية الإلهية كلها، وتحسب أنه ليس في العالم أشد منك قوة؟. قال تعالى:

{أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ}:

وبالحقيقة لو أن الإنسان نظر إلى نشأته في رحم أمه، وفكَّر في أيام طفولته، ثم تابع النظر وساءل نفسه عن تلك العناية التي عُنيت به في ماضيه وما تزال تُعنى به في حاضره، لطأطأت نفسه خاشعة لربها خاضعة لخالقها ولعرف أنه ضعيف لولا ما يمدّه به ربه من قوة، فقير لولا ما يهبه تعالى من رزق ومتعة، ذليل لولا ما أعطاه ربه من مكانة فليس له سواه ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.

غير أن عدم نظر الإنسان في نفسه وما خلق الله في هذا الكون من الآيات، واشتغاله دوماً بطعامه وشرابه، وانصرافه إلى دنياه وكسب معاشه جعله ينحط هذا الانحطاط ويتدنّى عن تلك المنزلة السامية فصار جحوداً كفوراً لا يقدِّر نعمة المنعم فهو يرى أنه بقوّته وتفكيره وبسعيه وجدِّه جمع من الدنيا ما جمع ونال منها ما نال.

قال تعالى:

{يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً}:

وأهلكت: بمعنى: صرفتُ، ومالاً لبداً: أي كثيراً مجتمعاً بعضه على بعض وهذا حال أكثر الناس. فترى الرجل يقول: صرفت على هذا البناء كذا وكذا مالاً واشتريت هذا الثوب بكذا وكذا.. ولا يقول لولا أن ربي تفضَّل عليَّ لبتُّ جائعاً عرياناً، ولولا أنه وهبني ما وهبني من قدرة على الكسب لكنت محروماً أبيت في العراء لا أجد مسكناً ولا مأوى.
فما أبعدَ المعرض عن الله!. وما أشدَّ كفره بنعمة من يمدّه دوماً بنعمته ولا ينساه!.
وأراد تعالى أن يذكِّر الإنسان بعض التذكير بذلك فقال:

{أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ}:

أي: أيظن هذا الإنسان المترف أنه يعيش بذاته ويكسب ما يكسبه بقوته وسعيه وليس من أحد ينظر إليه بعين عنايته وليس من أحد يمدّه بالقوة والحياة.
ثم وجَّه تعالى نظر الإنسان إلى ما تفضّل به عليه من الأعضاء والحواس التي بها استطاع أن يصل إلى ما وصل إليه ويكسب ما كسب وينال ما ينال فقال تعالى:

{أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ، وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ}:

وبالحقيقة لو أن الإنسان كان أعمى لا يُبصر فكيف يسعى ويشتغل؟.ولو أنه كان محروماً من الشفتين واللسان فكيف ينطق ويتكلَّم؟. فبانضمام الشفتين تخرج الحروف المختلفة ويخرج الصوت بمعونة اللسان لهما فيتكلم الإنسان بما يتكلم. ولولا هذه الأعضاء لكان الإنسان أشبه بالحيوان الأعجم يعوي عواءً، ويموء مواءً، لكن مرونة الشفتين في الإنسان وقدرتهما على الانقباض والانبساط، وحركات اللسان المختلفة إلى الأعلى والأسفل واليمين والشمال كل ذلك يساعد الإنسان على التكلُّم والتعبير عمَّا يجول في نفسه من الخواطر والأفكار كما يعينه على تناول الطعام ومضغه وابتلاعه والتمتُّع بهذه الصحة والنشاط.
ثم لفت تعالى نظرك إلى التغذية التي كان يغذيك بها أيام طفولتك يوم كنت ترضع الحليب السائغ من ثديَيْ أمك فقال تعالى:

{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}:

والنجد: هو المكان المرتفع الذي ينجد الإنسان فيعصمه من الغرق بالطوفان بعد هطول الأمطار الغزيرة وسيلان الوديان وهو المرتفع من الأرض، وتأتي في مساق الآية هنا المكان المرتفع من الصدر والذي ينجد الرضيع حين بكائه طلباً للغذاء فيعصمه من الجوع والحرمان، فالمراد به هنا ثدي الأم.

فالله تعالى من فضله عليك أن خلق لك الحليب في ثدي أمك، وجعل ينجدك به كلما احتجت إلى الطعام والشراب، ثم عرَّفك بالكيفية التي تتوصل بها لتناول هذا الغذاء.