{وَالليْلِ إِذَا يَغْشَى، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى}

بسم الله الرحمن الرحيم.

يريد سبحانه وتعالى في سورة الليل أن يبيِّن لك طريق سعادتك، ويرشدك إلى السير الذي يعود عليك بالحسنى في دنياك وآخرتك. وقد بيَّن تعالى في مبدأ السورة الكريمة طائفة من الآيات الكونية تعريفاً لك بعظمة من يرشدك ويهديك وبياناً لفضله الواسع عليك ولذلك قال تعالى:

{وَالليْلِ إِذَا يَغْشَى، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى}:

فالليل: هو هذه الظلمة التي تنبعث من جهة المشرق فتغشى وجه الأرض متزايدة شيئاً فشيئاً، إلى أن تلفّنا بردائها وتسترنا، وهنالك تجدنا ننقطع عن أعمالنا، ونخلد إلى الراحة، ونستسلم إلى النوم، لنستعيد به نشاطنا من بعد أن كلَّت جوارحنا وسرى التعب إلى أجسامنا.
والنهار: وهو ذلك الضياء الذي يرافق ظهور الشمس، فيكشف لنا جميع ما نشهده وما تفضَّل به علينا ربُّنا، فنذهب إلى أعمالنا وقد استعدنا نشاطنا، وزال عنَّا ما كنَّا نجده من تعب، فكأننا وُلدنا من جديد، وبدأنا وصلة جديدة من مراحل حياتنا.

فمن الذي أوجد لنا هذا النظام، وجعل الليل سكناً، والنهار مُبصراً؟. من الذي أوجد الأرض على هذا الحال من التكوُّر، وجعلها تدور حول نفسها، فكان من ذلك الليل والنهار، وبهذا نستطيع أن نستمر في سعينا وأعمالنا، ونتمتَّع بما أعطانا ربُّنا!.

على أن معنى هاتين الآيتين ليس قاصراً على ما قدَّمنا، بل هنالك معانٍ عدَّة لا يعلمها إلاَّ الله تنطوي مكنونة من ورائها. ففي {وَاللَيْلِ إِذَا يَغْشَى} أي: إذا هو غطَّى الأرض بظلامه: سكونٌ وهدوء كما ذكرنا في سورة الضحى، وذلك مما يساعدنا على الراحة والاستسلام للنوم، وفي الليل الرطوبة وبرودة الجو، وفي ذلك ما فيه من الفوائد للإنسان والحيوان ومعونة النبات على النماء، وفي الليل فوائد شتى مهما عدَّدت منها فأنت عاجز عن درك جميعها.

كما ينطوي تحت كلمة {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى}: أي: إذا ظهر وبدا معانٍ شتى. ففي النهار يظهر لك ما خلقه لك ربك من موجودات، وفي النهار بما فيه أيضاً من حرارة وضياء ينمو النبات وتنبت الحبوب وتنعقد الأزهار وتنضج الفاكهة والثمرات، وفي النهار فوائد لا يحصيها غير خالقها وموجدها.

ففكِّر في ذلك أيها الإنسان تفكيراً دقيقاً، تُهْدَ إلى خالقك، وتتعرَّف إلى شيء من عنايته بك وفضله عليك.

وبعد أن ذكر لنا تعالى الليل والنهار وما يدل عليه خلقهما من نظامٍ وإحكام، أراد تعالى أن يرينا من آياته آية أخرى، فقال تعالى:

{وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى}:

فالحيوانات والحشرات والطيور والأسماك والنبات والإنسان: من كل نوع من هذه الأنواع خلق الله تعالى زوجين اثنين. وإنك إذا ذهبت تبحث وتوسَّعت في البحث وجدت هذا النظام يتعدى ما ذكرنا فيشمل ما يُسمُّونه بالجمادات وغير ذلك مما تشهده ويقع نظرك عليه، فمن كل شيء خلق الله تعالى زوجين اثنين وجعل بينهما تآلفاً وتجاذباً، وجعل لكل منهما ما يناسبه ويحتاج إليه لتنظيم الحياة، وليستمر الوجود والبقاء، ولتتم عليك النعمة والإحسان، فما أرحم الخالق العظيم بنا، وما أكبر ما تفضَّل به علينا جميعاً!.

وبعد أن بيَّنت لنا الآية السابقة ذلك النظام البديع، أرادت الآية التالية أن تعرِّفنا بأن لهذه المخلوقات وظائف وأعمالاً مختلفة، وأنه تعالى ما خلق مخلوقاً عبثاً، ولذلك قال تعالى:

{إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى}:

وشتى: بمعنى مختلف، متنوِّع، فلكل مخلوق سعيه ووظيفته، فالجمل يحمل، والخيل والبغال تجر، والبقر يحرث، والضأن يأتيك بالصوف واللبن، والدجاج ينتج البيض، والضبع ينظِّف الفلاة من الجيف ليحافظ الجو على صفائه ونقاوة هوائه، والكلب يحرس، والهر ينظِّف المنازل من الحشرات، والنحل يجني العسل ويُلقِّح الأزهار، ويطول بنا الشرح إذا أردنا أن نأتي على ذكر كل مخلوق أو حيوان. فما من مخلوق إلا وله وظيفته الخاصة به، وما من مخلوق إلاَّ وله الأعضاء المتناسبة مع وظيفته، والغرائز التي يهتدي بها إلى كيفية سيره في حياته. وبتضافر وظائف هذه المخلوقات بعضها مع بعض ينتظم السير في هذا الكون، وتتأمَّن لك السعادة وتدوم الحياة.

فمن الذي خصَّص كل مخلوق بخصائصه، وجهَّزه بالأعضاء التي تساعده على وظيفته، وجعل الكون كله وحدة مترابطة الأجزاء وأبدعه على هذا الحال من الكمال!. أليس هو صاحب الرحمة والحنان!. أليس هو الله تعالى ذو الجلال والإكرام!.

ألا يجب عليك أن تفكر بذلك أيها الإنسان فتتعرَّف إلى عظمته تعالى وتذكِّر نفسك بحنانه وإحسانه، وتعلم أنه لا يأمرك إلا بما فيه سعادتك وخيرك فتخضع لأمره ونهيه؟.