الحمد لله في السرّاء والضرّاء وفي كل حال من الأحوال.

قال تعالى: {.. وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} سورة البقرة: الآية (155-157).

المؤمن إذا أصابته المصيبة، وحاقت به الشدة صبر واستسلم لأنه يعلم أن يد الحنَّان المنَّان إنما أنزلت به ما أنزلت من شدة، فكيف لا يرضى وكيف لا يستسلم، إنه يرضى ويستسلم لأنه يعلم رحمة الله، ويعلم حنان الله ويرى عناية الله، عنايته تعالى التي خلقت ما في الأرض وما في السموات لهذا الإنسان، عنايته تعالى التي سخَّرت الشمس وسخَّرت القمر دائبين، وسخَّرت الليل والنهار والأنهار والبحار، وخلقت من فواكه وأثمار ونباتات وأزهار وسهول وجبال، ومآكل ومشارب ولذائذ، خلقت كل ذلك وتخلق على الدوام فضلاً ومنَّة ورعاية لهذا الإنسان، إنه يرى تلك العناية الإلٓهية المحيطة به، القائمة على هذا الكون كله والمشرفة عليه كله، إنه يرى دوام العناية الإلٓهية عليه في الليل والنهار، وفي كل لحظة من اللحظات فلو انقطع إمداده تعالى عن العين لما أبصرت وعن الأذن لصمَّت وما سمعت، وعن اللسان لتوقَّف وما نبس بكلمة، وعن الفكر لزال وما وعى وعن القلب لسكت وما نبض نبضة، يرى المؤمن عناية الله تعالى به ظاهراً وباطناً فيستسلم لتصرُّفاته تعالى ويعلم أنها كلها خير وفضل ورحمة. ويحمده تعالى على كل حال.

ومن كلمة (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) "والتي هي إعلام من رسول الله ﷺ" يتبين أن هذه الذات العليّة التي خلقتك وأوجدتك، والتي تشرف على شؤونك وتربِّيك، هذه الذات العليَّة التي تسيِّر جميع الكائنات، والتي يؤول إليها أمر كل شيء، يبيِّن لك رسول الله أن الحمد لله رب العالمين فيها جميعاً. إنها تُعرِّفك أن رب العالمين الذي شملت تربيته كل شيء، المسيِّر الذي بيده كل شيء وإليه تؤول أمور كل شيء، هذا الرب الممدُّ والإلٓه المسيِّر يُحمدُ على كل ما تراه وكل ما يجري في هذا الكون من تسيير وتصرُّفات.

في كل ركعة، وفي كل صلاة، لا بل في كل يوم وبما يُقارب الأربعين مرة يتلو عليك رسول الله ﷺ عن لسان الله كلمة (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) لتستقر هذه الكلمة في نفسك ولتتبع معناها ولتحمده تعالى حقّاً، فإذا أنت حمدته وعرفت حنانه فقد توثَّقت الصلة بينك وبينه وهنالك تدخل في النعيم، النعيم النفسي وتتسامى نفسك وترقى من حالٍ إلى حالٍ أعلى، والصلاة معراج المؤمن، وتلك هي الغاية من الصلاة، ومن لم يقرأ آية الحمد ومن لم يتعرَّف إلى كلمة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ومن لم يفقه معانيها ويدخل بها على الله فلا صلاة له وما هو من الصلاة في شيء.

هذا وقد يعرض لك سؤال من الأسئلة فتقول:

طالما أنه لا يقع واقع في هذا الكون إلاَّ وقد أذن به الله وشاء، وأنه ما من حادث يحدث إلاَّ انطوى على فضل ورحمة وإحسان، فكيف نؤوِّل على ضوء ما عرضتموه جريمة القتل تقع على القتيل فتذهب بحياته وتحرم زوجه وبنيه من عطفه ورعايته وتسبِّب للقاتل الخزي والعار وتزج به في السجون بالدنيا، وتُلقي به غداً في النار. وكذلك السرقة والزنا وسائر أنواع الجرائم والتعديات، وهل وقوع ذلك كله وحدوثه تشمله كلمة (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)؟.
وهل نستطيع أن نعدَّ ذلك فضلاً ورحمة وعناية من الله بكل من الطرفين، القاتل والمقتول، والسارق والمسروق ماله، والزانية والزاني، والمعتدي والمُعتدَى عليه، وهل كل ذلك يُحمدُ تعالى عليه؟.

وجواباً على هذا السؤال وبوجه الاختصار أقول:

ما دام كل واقع في هذا الكون لا يقع إلاَّ بعلم الله ومن بعد إذنه، فلا شك أن كلمة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) تشمل وبدون استثناء كل حادث وواقع، وله الحمد تعالى على كل حال. ونفصِّل ولا نطيل فنقول:
الإنسان في هذه الحياة أحد رجلين: كافر ومؤمن، حيّ وميِّت، أعمى وبصير، أصم وسميع، فإذا أعرض الإنسان عن آيات ربِّه ولم يسلك طريق الإيمان التي شرعها الله تعالى وبيَّنها لعباده أضحت نفسه في ظلمة وعمى. فإذا ما رأى شهوة من الشهوات الخبيثة استحبَّها واستهواها، إذ لا نور له من الله يرى به حقيقتها وما تزال هذه الشهوات تعتلج في نفسه ويستفحل أمرها حيناً بعد حين حتى تملك عليه مشاعره وتستولي على قلبه وإنه ليصمِّم عليها ويعزم على فعلها وما مثل هذا الإنسان والحالة هذه إلاَّ كمثل امرئ سائر في وادٍ سحيق اعترضته صخرة عظيمة سدَّت عليه طريقه ذلك هو مثل الإنسان هذا بالنسبة لشهوته، إنها الصخرة العظيمة سدَّت عليه طريق الإيمان، فمهما ذكَّرته بآيات الله لا يتذكَّر، ومهما أوردت له من العبر والمواعظ، لا يتَّعظ ولا يعتبر، ومهما حذَّرته من العواقب وأنذرته بسوء المصير لا يحذر ولا يخاف ولا بدَّ قبل كل شيء من إزالة هذه الصخرة المانعة التي تعترض طريقه. فإن أنت أزلتها فقد انفتح الطريق إلى الإيمان وأمكن المضي والسير.

ولذلك ورحمة من الله تعالى بهذا الإنسان الذي أصبح سجيناً وراء شهوته وقد انسدَّ عليه بسببها طريق الإيمان، أنه يُطلقه فيقع فيما هو مصمِّم عليه ومشتهيه، وهنالك تخلص النفس مما كان مسيطراً عليها وتخلو ساحتها مما كان شاغلاً لها ومالكاً عليها مشاعرها وتزول هذه الصخرة التي كانت قد سدَّت عليها طريقها، ولا بدَّ للنفس بعد تحقيق هذه الشهوة وخروجها من ساحة النفس والراحة التي تعقب خروجها لكي تسير في طريق الإيمان والحالة هذه لا بدَّ لها إذن من دافع يدفعها وسائق يسوقها، لذا يسلِّط الله تعالى على هذا الإنسان بعد وقوعه في شهوته صنوفاً من الشدائد والمصائب والبلاء فإما المرض، وإما الفقر والفاقة وإما السجن والعذاب والتنكيل، وإما العرض على القتل والإعدام، وكل امرئ يسوق الله تعالى له الدواء المناسب بحسب حاله وبحسب شهوته وجرمه، ويشتد البلاء على هذا الإنسان المجرم ويزداد في الشدة، وما يزال به يضيّق عليه ويزيد في الضغط حتى تضيق عليه الأرض بما رحبت، وتضيق عليه نفسه فلا يجد ملجأً ولا منجاً من الله إلا إليه.

وهنالك تستسلم النفس إلى الله وتعلم أن ما أصابها من الشدة والبلاء إن هو إلا بما كسبت يداها وبسبب ما وقعت فيه من إجرام، وتصدق وما أسرع ما تنكشف لها الحقيقة أن لا إلٓه إلا الله وأن الفعل كله بيد الله، وأن الشدة التي حاقت بها إن هي إلاَّ محض رحمة وفضل وإحسان من الله فتشكر الله على البلاء، وتشكره على ما ساق لها من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر، وترى أن الجريمة التي نفَّذتها وأن البلاء الذي حلَّ بها من بعد، والعقوبة التي ذاقتها، كلها عوامل ووسائل ساعدتها على السير في طريق الإيمان. ولو أنها حُبِسَت وراء الشهوة، ولو أنها لم يُسلَّط عليها من بعد ذلك البلاء والشدّة، لظلَّت محرومة ممنوعة من الخير والحمد لله على ما أصابها وله الحمدُ على كل حال ولا يُحمد على مكروه سواه.

ذلك هو الحال النفسي للقاتل عندما تُنفَّذ فيه عقوبة الإعدام، وحال السارق حينما تقطع يده ويذوق مزيد الآلام الممضّة، ذلك هو حاله إن رجع للتفكير حال البلاء والشدّة، إنه ينتقل من الكفر إلى الإيمان، ومن الموت إلى الحياة فيغدو سميعاً بصيراً ويموت وهو يشكر الله ويحمده، وفي الحديث الشريف: «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرَّة من إيمان»‹¹›.
أما إذا خرجت الشهوة، وحاق من بعدها البلاء والشدة وظل هذا التفكير خامداً فلا بدَّ والحالة هذه من شدَّة أعظم وبلاء أكبر.
قال تعالى: {.. وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ..} سورة الرعد: الآية (31).
وإن لم تفد هذه العلاجات كلها فالمصير حتماً إلى النار ونعوذ بالله من مصير أهل النار.
حيث يرتمي أهل الجرائم في النار يوم القيامة ليخلصوا من خزيهم وعارهم، وإنهم إذ ذاك يحمدون الله تعالى على ما يداويهم به فيها.

تلك هي رحمة الله تعالى ونعمته وفضله ومنَّته على المعرضين من بني الإنسان تنبت الشهوة في أنفسهم بسبب إعراضهم، ويُزيِّن الله تعالى لهم أعمالهم فيقتل القاتل، ويسرق السارق، ويزني الزاني، ويجرم المجرم ثم تكون الشدَّة والمداواة وتخلص تلك الأنفس إن هي رجعت إلى الله ممَّا كان بها من جرثوم الشهوات وتدخل في حصيرة الإيمان، وتحمد الله على ما عالجها به من علاجات.
أما بالنسبة للمقتول وزوجه وبنيه، والمسروق ماله، والمعتدى عليه فلا تظننَّ أن الذي اعتلجت في نفسه جريمة القتل أو السرقة أو الزنا والتعدي يستطيع أن يسرق أو يعتدي على أي إنسان أراد. فالله سبحانه هو المهيمن والمشرف، وهو الحكيم العليم. قال تعالى: {... مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} سورة هود: الآية (56).

فإذا انتهى أجل المرء وكان من الحكمة والخير أن يموت هذا الذي انتهى أجله قتلاً وبهذه الصورة الرهيبة ساق الله تعالى القاتل إليه، وجعل تنفيذ جريمته عليه، وهنالك تكون الشدَّة التي تقع على المقتول ساعتئذٍ دواءً لنفسه وعلاجاً، إذ أنه لا بدَّ أن يكون من قبل قاتلاً فنال جزاءه وجزاء سيئةٍ سيئة مثلها، أو أن له من الأعمال السابقة ما اقتضى أن يكون موته بهذه الصورة، فلعلَّه إذا هو التجأ وأناب تطهر نفسه وتخلص ممَّا بها من أدران.
{وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} سورة البقرة: الآية (179).
وكذلك الأمر بالنسبة للمسروق ماله، والمعتدى عليه، لا بدَّ أن كلاًّ منهما سبق أن ظلم فأعاد الله تعالى عمله عليه. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} سورة الأنعام: الآية (129).

حتى أن الزاني الخبيث لا يقع عمله وعدوانه ولا ينفِّذ شهوته إلا على امرأة فاجرة خبثت نفسها وتطلَّبت هي أيضاً الفاحشة. قال تعالى: {الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} سورة النور: الآية (3).

وهكذا فهذه الذات العليَّة قائمة على الكون بالقسط وبيدها نواصي الخلْق تسيِّرها بالحق، وما من واقع يقع إلا من بعد إذنه، ولله الحمد على كل ما يسوقه لعباده. وإن من شيء عنده إلاَّ بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال.

فإن أردت أن لا يعتدي معتدٍ عليك فاستقم كما أُمرت، وإن أنت شذذت وبغيت فارتقب وقوع البلاء، والشدَّة من بعد الرخاء والله لا يغيِّر ما بقوم حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم، ومن زكَّى نفسه وسلك بها طريق الإيمان فقد أفلح وفاز، ومن أعرض عن طريق الإيمان، ودسَّ نفسه فقد خاب، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.

والحمد لله على كلِّ حال وعلى كل ما يسوقه لكلِّ امرئ بأكمل ما يناسبه.

ويتبيَّن لنا من هذا كلّه أن الحمد على درجات ثلاث:

1ـ حمـد مبنيٌ على الاعتقاد.
2ـ حمـد مبنيٌ على العرف.
3ـ حمـد مبنيٌ على العلم.

فمن لا يعتقد بها فهو كافر، والذي يشك فهو منافق، والمؤمن كل ما يحصل له عنده به عقيدة متينة قوية بأنه من الله تعالى خير ومن لم يعتقد بهذا فهو كافر. والمؤمن إذا أصابته شدة رجع إلى الله وقال: الله تعالى كله خير وأسماؤه كلّها حسنى فلا يصدر عنه سوء أبداً ولا بد أن هذه الشدة فيها خير لي. إذا قوي الاعتقاد تحوَّل إلى عرف ثم إلى علم وذلك هو أقوى الإيمان.

‹¹›- مسند الإمام أحمد ج3 ص116