حقيقة الصلاة، وسرُّها العجيب.

يتعجب كل إنسان غريب عن الإسلام بماهية الصلاة، ما سرُّها وما حقيقتها!. فصورتها حركات وسكنات وتلاوات مبتدأة بالتكبير منتهية بالتسليم يقوم بها المسلم خمس مرات بكل تعاقب ليلٍ ونهار.
وما من امرءٍ -من غير المسلمين- يشاهد مسلماً يصلِّي إلاَّ ويعجب من حركاته ويسأله عما يفعل في حركات صلاته، وماذا يستفيد، ولم يقوم بتلك الحركات؟
فيأتيه جواب المسلم: "أمر تعبُّدي به نحن مأمورون وعلينا التنفيذ" فيزداد تحيُّراً...
أو يكون جواب المسلم "بأن الصلاة تعبير واعتراف لله بخضوعه"...
فيعجب غير المسلم قائلاً: أولا يكفي الاعتراف بخضوع الإنسان لربِّه مرةً بالحياة كما تعترف الدول ببعضها.. إذن فلِمَ تكرار الاعتراف وهل يجب على الإنسان أن يستيقظ باكراً عند الفجر ليعترف، أوَ لم يعترف سابقاً!.
ثم وعند الظهيرة والعمل على أشُدِّه يترك عمله أو وظيفته ليعترف ثانياً فلا تمضِ بضع ساعات إلاَّ ويُدعى للاعتراف بربِّه عصراً، وبعدها بقليل بعد غروب الشمس، وبعد برهةٍ عند العشاء؟. أليست هناك ثقة متبادلة بين العبد وربه حتى يشك المسلم بنفسه وبنزاهة اعترافه، فيساورهُ الوسواس بأنه شك بصحة اعترافه ليعود كل يومٍ إلى تكرار اعترافه!. أمر عجيب وغريب.

كما يتساءل المرء المفكِّر أبهذه التقاليد التي لا نلمس فائدة منها ولا مردود، وهذه الحركات الغريبة التي يستنكرها كل ذي فكر ونظر لمْ يدرك حكمتَها تفوَّق صحابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخلائق بأسرها، وفتحوا البلادَ وقادوا العباد للإنسانية والمحبة والسلام، بل قلبوا الحضارات الكبرى من يونانية ورومانية وزرادشتيه وغيرها إلى الإسلام، ولِمَ لا يفعل أبناؤهم المسلمون ما فعله السابقون، ما دامت هذه الصلاة التي يصلُّونها هي نفس صلاة الصحابة الكرام ومن تابعهم بإحسان فهُجرت الأوثان ورفرفت رايتهم على بلاد الهند والصين؛ بالرحمة التي أفاضوها على العباد، والسلوكية الإنسانية السامية التي شدهوا بها قلوب الأمم؟!.

لقد أجابنا على هذه الألغاز علامتنا الجليل قُدِّس سرّه وفتح ما أُغلق علينا، وختم بالحق بما عرف من الحق، فجلا كل الشُبه والغموضَ وكشفَ اللثام عن حقيقة الصلاة وسرِّها العظيم، إذ بيَّن بأن لكلِّ شيء صورة وحقيقة.. صورة الصلاة التي نصلِّيها هي نفسها التي كان يصلِّيها سيد الخلْق صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام ومن تابعه من المؤمنين بإحسان.

أما حقيقتها وسرُّها العجيب فإليك هي:

الصلاة للمؤمن هي صلة نفسه بربِّها وارتباطها الوثيق بنور خالقها، المتوارد عليها بواسطة الشفيع صلى الله عليه وسلم، بارتباطها النفسي به برابطة التقدير والحب والتعظيم، حيث تسري لنفس المؤمن المصلِّي الحياة القلبية من الحي جلَّ كرمه، فحياة الجسد بالغذاء والشراب والهواء بينما حياة النفس بالصلاة التي فيها الغذاء والنماء للقلب المؤمن...

فنحن نتمتَّع بصلتنا بالفاخر من الطعام اللذيذ، ونغذي أعيننا بروعات مناظر الطبيعة والورود والأزهار الفتَّانة مع عبير الاستنشاق من روائحها الشذية المترعة بالألوان الجذَّابة الأخَّاذة، والمياه الدفَّاقة الرقراقة والنسيم العليل في المنتزهات الاصطيافية، كما نشعر بالحياة الحلوة اللذيذة الطيبة بضم أطفالنا ومن نحب إلى صدورنا بقبلات المحبة الودية الصافية، وكل ذلك بأجْمُعه أثر من آثار خالق الجمال ومبدع كل روعة وجلال وجمال.. فكيف إذا اتصلت نفس المؤمن الحق بمبدع الجمال وممدِّ الأكوان! فكم يغمرنا من مشاعر ونعيم وأذواق وافتتان وبوارق نورانية تذهب ببصيرتنا إلى ربِّ كل كمال! كم سنقطف من بدائع الحب الصافي العالي الشريف، حيث تستغرق نفوسنا ببحورِ ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر!..
كم من المشاهدات السامية العليّة المتفوقة فوق ما تناله العوالم بأسرها من ربِّ الجمال والفضيلة والكمال!
وكم ستتشرب نفوسنا من فضائل وكمالات وينمسح عنها بالنور الإلٓهي كل بؤس وتعب وشقاء، وكم تزول من نفوسنا من الأدران، ومن صفات الجبن والضعف والشح وغيرها، مما كانت ستخفض من شأننا عند الله وعند الناس،
بل كم سيسري إلى نفوسنا من علومٍ ومعارفَ دونها معارفُ العالَمين!...
ذلك غيضٌ من فيوضات الصلاة الحقيقية على كل نفس آمنت بذاتها واختيارها ورضاها بربها من ثنايا بدائع آياته الكونية نتيجة حساب المرء حسابَ الموت وخشيةَ سوءِ المنقلب بعده، اللهم لا عيش إلاَّ عيش المصلِّين.
من هنا ندرك افتتان المنشدين المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم بقصائد محبةٍ وتعظيمٍ وتوقير تفوق الوصف بسبب ما نالوه بالصلاة بواسطته من بحور فضل الله وكرمه الذي دونه كل إكرام وعطاء، فهو صلى الله عليه وسلم الطريق القلبي إلى الله، حيث تتشرَّب النفوس الحق والحياة من الله.

هذا.. وبمقدار ما تنال النفس من ربِّها من فيوضات الكمال والكسب القلبي والخيرات الحقيقية فستفيض بها أعمالاً عاليةً برحمة متدفقة نالها المصلِّي المؤمن بصلاته من معين حضرة الإلٓه العظيم، فالله تعالى ينظر إلى ما وقر في نفس المصلِّي من مكاسب من لدنه تعالى فيهيء له أعمالاً صالحة متناسبة مع نوالات نفسه.

والعكس صحيح فكلما قدَّم المؤمن من أعمال البرِّ والخير والإحسان وصالحات الأعمال التي ترفع شأنه عند الله وعند الناس كلما ابيضَّ وجهه فأقبل بصلاته على ربِّه وهو واثق من رضاه تعالى عنه وتسمو صلته بربِّه وتتسامى، فقيام الصلاة يتم بطيبات الأعمال، والله طيب ولا يقبل إلاَّ طيباً. هنالك وبالصلاة الحقيقية يتسامى المؤمن ويرقى رقيّاً متتالياً بكلِّ صلاة ويتغذى غذاء أهل الجنَّات بالوجبات اليومية الخمس فهو ومنذ تفتيحه على الحياة من النوم يلجم زيغان وضلال النفس بالصلوات الطيبات المباركات من الله، وكذا فإذا ما استغرقت في مخالب الدنيا الدنية أو كادت؛ فهو يضحِّي بكلِّ عمل دنيوي مهما علا وطغى ليغذي نفسه عند الظهيرة عند شدة الانهماك بدنياه ليصفِّي نفسه وينقِّيها ويزوِّدها بالمكرمات من ربِّ الأرض والسموات الذي فضله المديد أكبر من مكاسب الدنيا وما فيها والله أكبر، وكذا بقية الوجبات ذات الأكل الدائم والتجلِّي العلوي الظليل.إذن:

الصلاة معراج المؤمن بها يسمو وبها يعلو... الصلاة غسل القلوب وشفاؤها، نعيم المؤمن ومكاسبه وسر الحياة، بها تسري الحياة للنفوس فتنعشها وعافية الأبدان ووقايتها من كافة الأمراض... فالصلاة كمال الإنسانية وبهاؤها ولا حياة بلا صلاة فهي تنظِّف القلوب من خبثها وأدرانها، بها النعيم كله والشفاء النفسي والجسدي التامَّان الأكملان، والقوة والبطولة والشجاعة التي لا تبارى، وبها تتم التضحيات النبيلة السامية وخوارق الأعمال الإنسانية الكبرى، منها النور والحياة، والبهجة والبصيرة الكشَّافة لكلِّ نبل وسمو متسامق متعال متشاهق.

بها تتم المشاهدات الشريفة العليَّة للحضرة القدسية، للإلٓه العظيم ولأسمائه تعالى الحسنى، كيف لا ورائدها المصطفى النور الباهر الكاشف لعظمة جلال جمال مبدع كلِّ بديع وواهب الجمال لروائع بدائع كافة المخلوقات.. فيا سعادة المؤمن المتقي بالصلاة بحبيب الله نور أنوار الإلٓه ومنبع الجنَّات العلى وذلك بشهود كمالاته تعالى ونوال فضله وإحسانه وإغداقات فيوضات الإكرام والإنعام ونوال أقصى المنى.

الصلاة نور النفوس في البرزخ والحياة الحقيقية السارية بعد الموت وبها النجاة من أهوال الموقف ومن النيران المحرقة بالآخرة.
الصلاة وفاء وتطهير من الذنوب وشفاء من العيوب وبها تُنال الجنَّات وتركها جفاء وموت للقلوب.. فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ.

الرقي الإنساني لا يُنال إلاَّ بالصلاة، فبها الحياة كلها والنجاح والفلاح.
فصلُّوا ولا تملُّوا يا أهل السعادة والحُظوة والهناء والنجاة من كل بلاء.. أنتم يا من سلكتم مسالك الإيمان فطلَّقتم الدنيا وعفتم الفتنَ.

تارك الصلاة لا خير فيه.. بالصلاة تزدهي الحياة المترعة بالمكرمات والنجاة من كل قبيح الآفات والصفات، وبها معارج القدس، وهي مهبط التجلِّيات الربانية والفتوحات السنية الأبدية والأخلاق العليَّة والفوز بمجلى الحق المنير.
طوبى للمصلِّين المتصلين بذي الجلال والإكرام بواسطة قدسية روحانية نفس المصطفى وكفى..
طوبى للمصلِّين المؤمنين وحسن مآب..

الصلاة عماد الدين بها يبلغ المؤمن كلَّ مقاصده النبيلة ويُغفر له ما سبق بالصلة العلية بالله، فمن تركها "ففي نفسه المظلومة" قد هدم الدين وخسر اليقين وكان في نهاية عمره من الخاسرين لما أعدَّه تعالى للمصلِّين مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.