{أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}

بسم الله الرحمن الرحيم

{أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ}. سورة الغاشية (17، 20)

{أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}

الإبل: هي الجمال، والمراد بالنظر إلى الإبل النظر المقْرون بالتفكير والتقدير وبهذا النظر يتميَّز الإنسان عن الحيوان.

فالحيوان ينظر، والإنسان ينظر، لكن نظرة الحيوان لا تعدو ظاهر الشيء، ولا تنفذ إلى معرفة خصائصه ولا تنتقل إلى كيفية خلْقه. فإذا نظر الدب لعنقود العنب نظر إليه نظرة سطحية فهو لا يفكِّر في كيفية خروجه من جذع أمه الخشبي الصلب ولا في نمائه التدريجي، وهو لا ينظر إلى تلك الكيفية التي تمَّ بها تلقيح أزهاره ولا إلى تحوُّل طعمه من حامض إلى حلو ولا إلى ذلك التلوين الذي يدل على استوائه ونضجه، وهو لا يفكِّر في ترتيب حياته ولا في ذلك الورق الذي يحيط به ليساعد على نضجه ولا في غير ذلك من العوامل التي تعمل كلها على تهيئته وتحضيره، وكل ما في الأمر أنه ينقضُّ على كروم العنب ويفتك بها ولا ينظر إلى العنقود إلا أنه مادة تُؤكل.
ذلك هو الفرق بين نظر الإنسان ونظر الحيوان، ولذلك تجد الحيوان بعدم تفكيره لا يستطيع أن يتوسَّع في معرفة ربه ولا أن يُدرك من جلاله وعظمته ما يدركه الإنسان، ولذا تجده ثابتاً على طور واحد لا يتعدَّاه، وهو لا يخرج عن أنه حيوان.
وإذاً، فالنظرة إلى الأشياء تختلف من شخص إلى شخص، وكلما كان الإنسان أكثر تفكيراً كان أكثر تعظيماً لخالقه وتقديراً.
وإذا نظر الإنسان إلى الأشياء نظرة سطحية كنظرة الحيوان الأعجم فهو أشبه به لا بل أحطَّ منه، قال تعالى:

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ). سورة الأنفال: الآية (22).

وقد جلب الله نظر المعارضين لرسوله إلى الإبل فلعلَّهم إن فكَّروا قدَّروا وعرفوا.
وبالحقيقة لو نظر الإنسان إلى الجمل لوجد فيه من حكمة الخلْق ودقّة الصنع ما يدلّه على خالقه العظيم وموجده الحكيم.
فالإنسان لا يستطيع أن يحمل متاعه على الجمل وهو واقف لعلوِّ جثة الجمل وقصر الإنسان عنها، ولذلك تجد الجمل يقْعُد على الأرض خلافاً لغيره من حيوانات الحمل. ثم إن الجمل لو لم تكن له تلك الثفينات في صدره وقوائمه لمالَ جسمه ولما توازن على الأرض أثناء قعوده، ولو كان للجمل حوافر كحوافر الخيل بدلاً عن الأخفاف لما استطاع النهوض بحمله الثقيل، ولما تمكَّنت قوائمه من الأرض عند النهوض والقعود.
أما الرقبة الطويلة المنحنية فبها يستطيع النهوض والقعود، وهي له أشبه بذراع القبَّان، ورأسه الثقيل أشبه ببيضة القبَّان يقرِّبه نحو جسمه أو يمدُّه إلى الأمام فيحصل التوازن ويتمّ له النهوض والقعود حسبما يريد.
وإذا نظرتَ إلى أخفاف الجمل الواسعة المستديرة تجلَّت لك حكمة الله في خلقه فهي تساعده على السير في الرمال، وهي خير معين له على حمل جسمه الثقيل، ولو أنها كانت صغيرة كأرجل الخيل لما تمكَّنت قوائمه من حمل جسمه ولتعثَّر في سيره فسقط على الأرض.
أما سنامه ففضلاً عن كونه سبباً لتوازن الحمل على ظهره فهو يخزِّن فيه شحماً يساعده على السير في الصحراء كما تساعد بعض الأجواف التي في بطنه على خزن الماء أياماً عديدة، ولذا تجده صبوراً على الجوع والعطش.
على أن هذه النواحي التي تكلَّمنا عنها ليست إلا طرفاً يسيراً من حكمة الخلق في هذا الحيوان. فإذا نظرت فيها نظرة تفكير وتبصُّر استدللت على خالق عظيم ومدبِّر حكيم وإله قدير.
ثم لفت تعالى نظرنا إلى آية أخرى فقال:

{وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ}

sky_sun_1

والسماء: هي ذلك السقف الذي يحيط بالأرض من جميع الجهات وما تشتمل عليه من شمس وقمر ونجوم وجاذبيات.
فانظر أيها الإنسان إلى هذه السماء، ما الذي يحملها وأنت ترى أنه لا يمسكها عمد ولا جدار، ثم انظر إلى النجوم اللامعة فيها والتي يفوق حجم كل واحد منها حجم الأرض بآلاف المرات، كيف هي تسبح في هذا الفضاء وليس يربطها ببعضها سلاسل ولا أسلاك. فكِّر في هذه القوى والجاذبيات التي تربط بعض النجوم ببعض فإذا هي متماسكة مترابطة وبين كل نجم ونجم آلاف السنين الضوئية والأعوام.
فكِّر أيها الإنسان في السماء، هل تستطيع أن تقوم بذاتها؟. أليس لها خالق عظيم أوجدها ورفعها. ثم فكِّر في النجوم أليس لها من إله نظَّمها أليس لها من ممدٍّ يمدُّها بالنور والقوة والحياة، فإذا هي تسطع لا يطفئها مرور السنين ولا يضعف من نورها وقوَّتها كرُّ العصور والأجيال.

{وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ}

mountain_1

ونصب الشيء: رفعه وأقامه ووضعه وضعاً ثابتاً. فانظر أيها الإنسان إلى الجبال من الذي وضع فيها ما وضع من أتربة ورمال وأحجار. من الذي جمع كتلتها بعضها إلى بعض فإذا هي متماسكة الأجزاء والذرات!. من الذي رفعها عن سطح الأرض فإذا هي عالية ذاهبة في الفضاء!. من الذي أرساها في الأرض ووضعها هذا الوضع الثابت فلا تتحرك ولا تضطرب ولا يؤثِّر عليها سير الأرض ولا دورانها!. أفلا تفكِّر في الجبال وعظَمتها وشموخها وتُعظِّم خالقها الذي أوجدها على هذا الحال ومنحها هذه العظَمة!.

{وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ}

وسَطَحَ الشيء: بسطه. يُقال: سَطَحَ الناقة، أي: أناخها، وسَطَحَ التمر أي: بسطه على الأرض. فمن الذي بسط لك الأرض وجعل لها هذا السطح الممهَّد.
من الذي نظَّم هذه الطبقات الترابية بعضها إلى جانب بعض فإذا هي قابلة للفلاحة والزراعة؟
من الذي خلق لك هذا التراب وجعل فيه ما جعل من مواد؟
من الذي نظَّم لك ينابيع الماء ووزَّعها بكل قرية وجزيرة وبلدة ومكان فلم ينسَ من فضله أحداً، وجهَّز الأرض بكل ما تحتاج إليه في الحياة؟

أفليس في الإبل والسماء... أليس في الجبال والأرض... أليس فيها آيات دالَّة على خالق عظيم خلقك وتفضَّل عليك!. أفلا تفكِّر في قدرته وعظمته... أفلا تفكِّر وتتذكر شيئاً من فضله وإحسانه فتصغي إلى قوله وتستمع إلى نصحه!.