هل الفطرة والفكر فقط كافيان ليصل الإنسان بهما للإيمان وألا يقع في الأخطاء؟

بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إلى السادة القائمين على هذا الموقع من المعروف وكما قال العلّامة الإنساني محمد أمين شيخو قدس الله سره أن الرسل والأنبياء عليهم الصلاة السلام معصومون عن الخطأ لأنهم يرون الحقائق بنور الله، وقدوة للبشر..
والسؤال:
هل الفطرة العالية التي فطر الله عليها الإنسان وميزان الفكر الذي وهبه تعالى للإنسان كافٍ إذا استخدمهما أتم الاستخدام على:
أ- ألا يقع بالخطأ..
ب- أو على الأقل يسير باستقامة.
أرجو الجواب بحالتين:
1- فرضاً بحال هذا الإنسان ولد في جزيرة ورأى الكون أمامه ولم يعرف رسل ولا أنبياء ولا كتب سماوية.
2- أ- أنه عاش في مجتمع إسلامي مثل وضعنا بالشام.
ب- أنه عاش في مجتمع مثل الغرب أو الشرق الأقصى أم أنه لابد من الإيمان والتقوى والرابطة بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم.....
أرجو ألا يكون سؤالي هذا ثقيلاً (غير منطقي) ولكم جزيل الشكر والاحترام والتقدير دمتم وأدام الله عزكم...

أولاً: نودّ أن نقول لك؛ ليس في سؤال واستفسار الإنسان عن ما يجهله أو عمّا يدور في ذهنه من أمور أي عيب أو غضاضة، لأن الإنسان إنما هو في مدرسة "هذه الحياة" ومطلوب منه أن يتعلَّم ويَعلَم ويُعلِّم غيره، حتّى يكسب عمره الثمين بما خلق له وليُكتب له النجاح الدنيوي الأخروي. ولأنّ الإنسان لم يخرج إلى هذه الحياة عالماً متعلّماً. بل إنما العلم بالتعلّم.
أخي الكريم:
لقد تفضّلت بالقول: "أنّ العلّامة الجليل قدّس سرّه قال أنّ الرسل والأنبياء الكرام صلوات الله عليهم معصومون لأنّهم ينظرون دوماً بنور الله".
والرسل والأنبياء الكرام إنما اختارهم تعالى واجتباهم واصطفاهم على العالمين بسبب استنارتهم الدائمة بنور الله وبسبب كمالهم وعلمهم العظيم؛ ليكونوا منقذين لعباده من الهلاك وليكونوا قدوةً للبشر في الاستقامة والسلوك الصحيح. ذلك لأنهم صدقوا بالعهد منذ عالم الأزل ونجحوا ونالوا شهادة النجاح لذا اختارهم تعالى معلّمين للبشر المقصرين كي ينجحوا أيضاً.
أما السؤال أخي الكريم فكان استفساراً عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها وعن التفكير، وليس عن الاستنارة بنور الله. وكان الاستفسار:
هل الفطرة والتفكير تعصمان الإنسان من الخطأ؟
هل الفطرة والتفكير يقودان الإنسان إلى الاستقامة؟
في الحالات التالية:
عندما يولد في جزيرة لا يعلم شيئاً ولا أحداً.
عندما يكون في مجتمع مسلم كمجتمعنا.
عندما يكون في مجتمع كالمجتمعات الغربية.
وعلى هذا يمكن لنا القول:
بالنسبة للسؤال: هل الفطرة والتفكير تعصمان الإنسان من الخطأ؟
فالفطرة مع التفكير منذ البلوغ واختيار الحقّ وأهله تعصمان الإنسان من الخطأ.
وبالنسبة للسؤال: هل الفطرة والتفكير يقودان الإنسان إلى الاستقامة؟
نعم، بصحبة أهل الحقّ منذ البلوغ. والآية تقول عن بعض الصحابة الكرام الذين سلكوا مع أهل الحق بالتفكير: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} (سورة الأحزاب 23).
بالنسبة للفرض الأوّل: "هذا الإنسان ولد في جزيرة ورأى الكون أمامه ولم يعرف رسلاً ولا أنبياءً ولا كتباً سماوية".
فهذا الفرض بما أنّه ليس له وجودٌ على أرض الواقع بل لا يمكن أن يحصل، لأنّ الإنسان لا يمكن أن يوجد في هذا الكون إلا من طريق والدين يربيانه ويعنيان به، هذا القانون الذي سنّه تعالى لوجود الإنسان ولن تجد لسنّة الله تبديلاً. فلا يمكن لنا أن نفرض فرضيات يستحيل تحقّقها! ألا ينبغي أخي الكريم أن يكون حوارنا وبحثنا لما هو واقع محسوس لا خيال لا يمكن الوصول إليه! لكي يكون حوارنا منتجاً مفيداً بنّاءً.
أو يمكن لك أن توضّح لنا فيما إذا كانت الجزيرة التي قصدتها مسكونة كالمدينة وأهلها جهلة كالصابئة؟
أم غير مسكونة ووُلد فيها الإنسان الذي فرضته: فمن وَلَده؟
بالنسبة للفرض الثاني والثالث: "أنّ الإنسان قد ولد في بيئة شرقيّة أو غربية".
فهذا الإنسان المولود على الفطرة ما إن يبلغ أشدّه، أو يبلغ سنّ التكليف حتّى يستطيع أن يفكّر التفكير الصحيح، "وسنّ التكليف هو السنّ الذي يكتمل فيه نمو تفكير الإنسان".
وفي هذا السنّ يمكن له أن يفكّر بحياته وبوجوده وبذاته فمن أوجده في هذا الكون ولم يكن من قبل شيئاً مذكوراً، وأين كان قبل وجوده فيه وإلى هو ذاهب في هذه الحياة وإلى أين سينتهي به المطاف وهل هو خالدٌ في هذه الحياة أم هو راحل لا محالة عنها وما هي المهمّة الملقاة على عاتقه في فترة وجوده في هذا الكون. وما هذا الكون الذي هو فيه ومن أوجده وخلق وأبدع ما فيه على أبدع نظام!
كل هذا يمكن للإنسان أن يبحث به ويفكّر فيه فإذا صدق في تفكيره وجدّ واجتهد وبحث البحث الكافي فلا ريب أن يقوده تفكيره إلى حقيقة ثابتة وهي أن لا إلۤه إلا الله، هذه الحقيقة يدركها ويعقلها، ويعلم أن الربّ الذي خلقه مشرفٌ عليه رقيب عليه وهو مسيّر لكل ما في الكون. فيستقيم على أمره سبحانه وتعالى، ولا يمكن له أن يخالفه في أمر من أوامره، وهذه حقيقة الإيمان.
فلا فرق بالنسبة للإنسان المولود على الفطرة إن كان ولد في بيئة مسلمة أو في بيئة غير مسلمة طالما أن الله سبحانه وتعالى قد تفضّل عليه بجوهرة ثمينة ألا وهي التفكير تكتمل وتنضج عندما يبلغ الإنسان أشدّه وتقوده إلى الإيمان الصحيح. وقد ضرب تعالى لنا أمثلة في القرآن الكريم حول هذه النقطة لنعلم أن الإنسان في أي بيئة نشأ إذا استخدم تفكيره الاستخدام الصحيح فبإمكانه التوصّل إلى الحقيقة ونبذ الباطل وهجر أهله.
مثال ذلك قصّة سيدنا إبراهيم عليه السلام الذي نشأ في قوم كلّهم جهّال يعبدون الأصنام، ففكّر في خلق السموات والأرض إلى أن توصّل إلى الإيمان الحقّ وهجر قومه وعباداتهم. كذلك سيدنا موسى عليه السلام الذي نشأ وتربّى في قصر فرعون الملكي الذي كان يعد نفسه إلۤهاً لقومه ومع ذلك فقد فكّر بصدق وحزم فكفر بهذا الإلۤه المزعوم وهجر قصره وما فيه من الرفاه والترف وارتضى حياة الرعي حياة القسوة بدلاً عنها.
ولعلّ قصّة أصحاب الكهف خير مثال يدعم هذه النقطة، من أنّ الإنسان إذا فكّر تفكيراً صحيحاً بصدق لن ينجرف مع التيار بل يمشي بالحقّ الذي يستدل عليه بعد إيمانه بإلۤهه ومسيّره.
هذا وقد تجد أناساً قد ولدوا في بلدان مسلمة إلا أنّهم يعيشون بجهل مطبق لا يدركون من الإسلام إلا اسمه ولا يعلمون عن القرآن إلا لحنه ورسمه. وذلك لأنّهم قلّدوا آباءهم تقليداً أعمى دون بحث عن الحقيقة ولا تفكير في أسرار الوجود.
إذن، فالتفكير الصحيح يقود صاحبه إلى الإيمان بلا إلۤه إلا الله وهذا الإيمان هو الذي يحجز صاحبه عن معصية الإلۤه، ومخالفة أوامره، وارتكاب المحرّمات والفواحش وغيرها... ولكنّ هذا الإنسان لمّا يبلغ مراحل الإيمان العليا بعد، مالمْ يتقِّ الله ويستنرْ بنوره سبحانه وتعالى. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ..} [الحديد : 28].
فهذا الإنسان الذي استفاد من تفكيره الذي وهبه الله إياه، ووصل إلى الإيمان الحقّ بالله سبحانه وتعالى. هذا الإنسان يستقيم على أمر الله ويحفظ من الفواحش والمعاصي. لكنّه يبقى في حياته مجتهداً قد تعرض عليه المسائل ويجاوز الامتحانات في هذه الحياة باجتهاده وتفكيره. لأنّه لم يستنر بعد بنور الله "كما ذكر بالآية الكريمة السابقة". مثال: كالذي أخذ شهادة ثانوية فهذا هو الإيمان فلا بدّ له بعدها من معلّم يفتح أمامه مجال الدكتوراه: وهذه التقوى.
لذا فقد يصيب هذا المؤمن في اجتهاده ويُثاب على ذلك بعظيم الثواب والأجر، وقد يجتهد في بعض المسائل ويخطئ ولكن بنيّة طيبة حسنة، وإنما الأعمال بالنيّات، لذا فالله سبحانه وتعالى لا يضيع عمله واجتهاده ويجزيه على نيته ويثيبه على حسن قصده بخير الثواب. لذا لابدّ له من الاستنارة بصحبة الذين نالوا الشهادة وصدقوا منذ عالم الأزل أولئك هم المٌخْلَصين: الأنبياء والرسل الكرام ومن يربط قلبك بهم فيستنير قلبك فلا خطأ بعدها ولا اجتهاد لأنّه غدا يرى بنور الله الحقّ والخير فيتّبعه ويرى الشرّ والأذى فيجتنبه ولو زيّن بمظاهر خدّاعة لقد غدا يرى السمّ بالدسم فلا يخدع لأنّه استنار بنور أهل الحقّ الموصل لنور الله.
نرجو من الله أن يكون في هذا القدر ما يحلّ التساؤلات التي تفضّلت بطرحها.
نأمل أن توافينا دوماً بكل ما لم يتّضح لديك.
شكراً جزيلاً لك أخ إبراهيم على سؤالك واستفسارك ومتابعتك وبحثك.