بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أيها السادة الكرام: لدي سؤال حول تأويل الآية (ن والقلم وما يسطرون) وكيف نستطيع ربطها مع الآيات (الذي علم بالقلم) و (..إذ يلقون أقلامهم..).جزاكم الله عنا خير الجزاء و الحمد لله رب العالمين.
جواباً للأخ الكريم.
- بالنسبة للآية الكريمة: {ن والقلَمِ و ما يَسْطُرُونَ}.
لقد وضع الله سبحانه وتعالى في أول بعض السور رموزاً لينتبه الإنسان فيفكِّر إن لم يفكِّر فلن يستفيد شيئاً. على الإنسان أن يفكِّر بالصلاة وما فيها، بالصوم وأسبابه وموجباته والغاية منه. بالحج والسرِّ العظيم لفريضته فعليه أن لا يدع قضية إلاَّ ويفكِّر فيها، يقولون: {الم، ألمر، كهيعص، ن، ق}: "الله أعلم بمراده منها". فإما أن الله تعالى على حسب ادعائهم لا يعرف دلالة عباده وحاشا لله العظيم ذلك وتعالى علواً كبيراً، حتى جعل لهم أشياء لا يمكن معرفتها، وإما أن الناس لم يفكِّروا فيهتدوا للمراد منها. وهذا هو الأمر الصحيح والواقع الراجح الذي لا ريب فيه. وقد بدأ تعالى هذه السورة الكريمة بأن خاطب رسوله الكريم قال تعالى: {ن والقلَمِ و ما يَسْطُرُونَ}: وفي هذا الحرف (ن) إشارة إلى القرآن الكريم.
ن: تعني هذا النور الذي أنزلته عليك يا رسولي، هذا القرآن الذي أرسلتك به لبني الإنسان، والذي نزل به الروح الأمين وانطبع في قلبك، هذا الكتاب المنير الذي تبلّغه للبشرية جمعاء لينهضوا من سباتهم إلى وظيفتهم البنّاءة ويسعوا إلى نجاتهم وخلاصهم من الهلاك، هذا القرآن هو النور المنقذ من الظلام والعمى والجهل، فيه العلم الحق والدلالة الإنسانية المنطقية الرشيدة، بتطبيقه تتحقّق السعادة وتنقرض الآلام والأسقام، وكيف لا يحصل ذلك وهو تنزيل من الرحيم الرحمن.
كذلك "ن" بالنسبة لسيدنا موسى عليه السلام كان التوراة كما بالآية الكريمة {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ..} سورة المائدة 44. وقوله سبحانه وتعالى {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} سورة الأنبياء 48. وهي نفس كلام الله المنير لقلوب بني البشر، وتشمل الزبور والإنجيل كلام الله لعباده فهو تعالى لم ينسَ من فضله أمّةً ولا شعباً بهذا إنقاذهم وسعادتهم.
ولكن بهذه الآية الكريمة حصراً هذا النور الذي طبعته في قلبك من القرآن النوراني العظيم. إذ لم يطبع في قلب رسول الله لا غرائز ولا شهوات ولا ميول، إلا الله وإلا نور أسماء الله الحسنى وضياء كلماته تعالى التامّات السارية بقلم القدرة الإلهية على قلبك ثمّ على قلوب من يتوجّهون بقلوبهم إليّ، فأنت تطبع في نفوسهم هذا القرآن النور الساري منّي إليك إليهم لتخرج الناس من الظلمات إلى النور.
{وَما يسْطُرُونَ}: عنك هذا البيان العالي الذي طلبته منّي لهم إنقاذهم وهدايتهم الذي لو اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثله لعجزوا ويعجزون.
وهو نفس البيان الذي جاءنا به علامتنا بالشروح المعجزة للعالمين لأوائل أحرف سور القرآن الكريم وشرح الفاتح، وهو في كتاب "أسرار السبع المثاني" وهو قيد الصدور بالأسواق، وكشف الحجامة والتكبير ومصادر مياه الينابيع في العالم، وكل البيان.
{وَما يسْطُرُونَ}: وقد سطره ونقله الصحب الكرام رضوان الله عليهم، ونحن بدورنا أيضاً سطرنا علوم العلامة الربانية للناس التي تعجز البشرية عن الإتيان بحقائق مثلها قطعاً. فالله برحمته الشاملة وحبّه الكامل لنا وللعالمين لم ينسَ أحداً ولم ينسنا، فقد أفاض علينا بتأويل جزء عمّ وتأويل القرآن العظيم {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ}. فتأويل جزء عمّ على سبيل المثال واضح بمعانيه النيّرة للعالمين ولنا، وهو بكافّة مكتبات قطرنا ومكتبات البلاد العربية، بل هو مترجم للغات العالم بالإنكليزيّة والفرنسية وغيرها فلا حجّة لأحد فقد أنزل تعالى لنا نوره وهو مسطور والحمد لله ربّ العالمين، فما خصّ بفضله أمّة دون أمّة وفضله العظيم لمن يشاء، فمن شاء الهداية وجدها "ومن يطلب ربّه يلاقيه" والله يهدي بنوره كلّ من شاء وبصدق أراد. {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} سورة الشورى 52.
إذن، القرآن الكريم هو هدي ربّ العالمين لكلّ الصادقين السالكين، هو نورٌ يهتدون به في ظلماء حياتهم وبدونه وبدون تطبيق تعاليمه يضحي الإنسان بدون قانون ولا نظام، بل يمشي خبط عشواء ويخوض في بحار لا يدري من أين أبحر فيها وإلى أين سيرسو!
وهذا القرآن فيه علوم الأوّلين والآخرين، فيه تفصيل لكل شيء، فيه الحقّ الكامل الذي لا يعاب ولا يعتريه نقصان أو انحراف، مهما تطاولت عليه الأزمان، فيه العلم الشامل، إذ من عقل حقائق القرآن فقد أضحى عالماً بصيراً يدرك أسرار الوجود والغاية منه. يدرك المجهول عن الناس أجمعين ويعلّمه الله بهذا الكتاب ما لا يعلمون جميعاً...ويطول الحديث كثيراً كثيراً عن القرآن الكريم.
إلا أنّ القصد هو أنّ هذه الآية الكريمة تبيّن أنّ هذا القرآن الذي بين أيدينا فيه شيئان:
أولاً: في القرآن نور عظيم يهدي من استمسك به إلى الصراط المستقيم.
ثانياً: فيه علوم عظيمة شاملة كاملة تفوق كلّ العلوم؛ فمن تعلّم وعقل وفقه معاني القرآن الكريم فقد أضحى عالماً عظيماً بها، وهذا ما تشير إليه كلمة (القلم) في هذه الآية الكريمة. إذ المراد من القلم في هذه الآية الكريمة: الكتابة. نقول: قلم الوزارة، ونعني بذلك: دائرة التسجيل والكتابة، حيث تُسجَّلُ الوقائع وتُكتب.
- أما بالنسبة للآية الكريمة: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}:
إنّ المراد من كلمة ( القلم ) الواردة في هذه الآية الكريمة: ما ثبَّته الله على صفحات الأنفس من الغرائز، وما أوجده فيها من الشهوات، فلكلِّ مخلوق غريزة خاصة، ولكل مخلوق شهوات مناسبة. فالبطُّ لا يلبث فرخه أن ينقف حتى يعدو إلى الماء، فيسبح فيها بمهارة وإتقان عجيب، والهرُّ يفترس، والعُصفور يبني عشه على أكمل وجه وأتم ترتيب، والنحلة تبني الخلية بناءً مُحكماً وتجني العسل من الأزهار، والطفل الصغير لا يلبث أن يخرج من بطن أمِّه حتى يُحرِّك شفتيه مُستعداً للرضاع.
فمن الذي علَّم فرخ البط السباحة في الماء، وعلَّم الهرَّ الافتراس والقضاء على الحشرات؟ ومن الذي علَّم العصافير كيفية بناء الأعشاش وأرشدها إلى أن تضع فيها ألين الريش ونُتف الحرير؟ أمَّن هذا الذي علَّم النحل بناء الخلية، وعلَّم الطفل منذ خروجه إلى هذا العالم الرضاع؟
تلك هي قدرة الحكيم الخبير والخالق العظيم، كتَبَتْ على صفحات كل نفس ما يناسب معيشتها وما هي بحاجة إليه. فترى كلَّ مخلوق يهتدي بفطرته إلى ما أثبته الله في نفسه من الغرائز مما تقوم به حياته ويتأمَّن معه بقاؤه، وتتم له به سعادته، من غير ما حاجة إلى دلالته وإرشاده إليه، فهذه الغرائز المثبتة على النفوس والشهوات المكتوبة على صفحات القلوب، أمكنتْ كلَّ مخلوق من الاهتداء، وأرتهُ طريق السير في هذا الوجود.
ولولا هذا النقش، وإن شئت فقل لولا هذا القلم لوقفت الخلائقُ حيارى لا تقوم بعمل، ولا تشتهي شيئاً، ولا تهتدي إلى شيء.
فالتعليم إذاً إنما هو بالقلم، أي: توصُّل كلِّ مخلوق إلى كيفية السير في الحياة إنما هو ناشئ عن تلك الكتابة التي كتبتها يد الحكيم الخبير على النفس، فسبحان من أودع الغرائز المختلفة في هذه المخلوقات، وجعل لها هذه الشهوات تدفعها إلى السير وتجعلها تتمتع بلذة الوجود والسعادة في الحياة.
وقد أراد تعالى أن يعرِّف الإنسان ذاتَهُ بهذه الكتابة التي كُتِبت على صفحات نفسه، وأن يسوق له على ذلك القلم الدليل على نفسه فقال تعالى: { عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ }:
فلولا التعليم الذي علَّمك ربُّك لكنت لا تعلم شيئاً، أي: لولا ما كتبه الله في نفسك من شهوة لكنت جماداً لا تفقه ولا تسير في الحياة خطوة، لكنها نعمة الله عليك، أثبتت في نفسك ما تقوم به في حياتك من الغرائز، وما تتأمَّن معه سعادتك من الشهوات، وأنت بهذه الكتابة تندفع وراء حاجاتك وتتعرف إلى كلِّ شيءٍ.
فبهذه الكتابة، وإن شئت فقل: بالقلم علَّمك ربُّك فأصبحت في هذه الحياة تهتدي إلى الأشياء، وتستطيع أن تتعرَّف إلى الموجودات وتلتذ وتنعم بما أوجده ربك من الطيبات، ولولا هذه الكتابة لما وجدت لذة ولا نعمة بشيء ولما اهتديت إلى شيء، وقد أراد تعالى أن يُبيِّن للإنسان ضرورة اهتدائه بربه في سيره في هذه الحياة، وتمتّعه بما أودعه فيه ربه من شهوات، ليكون سيره كله خيراً ولتكون لذته وتمتعه عائدة عليه بالسعادة والهناء.
وهكذا فلو قارنّا بين معنيي (القلم) الواردين في هاتين الآيتين لوجدنا أنّه يشترك في معنى الكتابة والعلم المثبت، العلم المثبت في القرآن الكريم والعلم المثبت على صفحات الأنفس يوم خلقها الله سبحانه وتعالى وأخرجها إلى الوجود.
- أما بالنسبة للآية الكريمة {وما كنْتَ لديْهِم إذْ يلقونَ أقلامَهم أيُّهم يكْفُلُ مَرْيم..}:
والمراد بأقلامهم: ما صبّ في قلوبهم من نور كلام الله عن طريق رسوله سيدنا زكريا عليه السلام، أي مراتبهم النورانية ودرجاتهم النورانية ودرجات إيمانهم بما كسبوا وبالحديث الشريف: (ما صبّ في صدري شيء إلا وصببته في صدر صاحبي أبي بكر).
لعلّ الله يقبل كفالتهم لأمنّا مريم عليها السلام فكانت كفالتها للعظيم عليه السلام سيدنا زكريا.