أستاذي الفاضل أدامكم الله...
لماذا حد السرقة قصاصها القرآني أقسى من الزنى مثلاً؟ مع أنه من حيث الجرم الزنى أكبر وأصعب، فالذي يُسرق من بيته أهون من الذي يُزنى في عرضه، أفيدونا جزاكم الله عنا كل خير.
في هذا الزمان لا يجوز أبداً قطع اليد ولو سرق كما لا يجوز الرجم ولا أصل له.
لم يكن حكم قطع يد السارق حكماً تعسفياً جائراً كما يخيل لبعض الناس بل هو حكم عادل وفيه الخير للجميع ولكنه ضمن شروط وواجبات وله دواعي وأسباب، لم يفرضه الله الحكيم عبثاً أو تعسفاً وهو الرحيم قال تعالى في محكم تنزيله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} سورة المائدة: الآية (38). فقانون قطع يد السارق يطبق في مجتمع قد تحقق فيه الكفاف المادي لجميع أفراده رجالاً ونساءً شيباً وأطفالاً والتكافل الاجتماعي ضمن العيش الكريم لجميع الناس على السواء من طعام وشراب وكساء.
وإن لم يكن هذا محققاً فلا يطبق قانون قطع اليد أبداً، فالذي يسرق لجوع وفاقة ألمت به أو ببنيه فلا تقطع يده، بل بالعكس تزوده الدولة الإسلامية بالطعام والشراب والراتب الذي يجعله في كفاف ويدفع عنه الجوع والحرمان فلا يحتاج لأحد، فإذا اكتفى مادياً فلن يسرق أبداً ولا يطبَّق عليه حكم قطع اليد الذي تستصعبه أنت فقانون قطع يد السارق هذا حكم مستوحى من القرآن العظيم، فإذن هو حكم إسلامي يكون قيد التنفيذ في حال طُبّق الضمان الاجتماعي وليس هناك فقير ولا مسكين ولا محروم ويكون هذا في عهد إسلامي تمدُّ الدولة الإسلامية كافة أفرادها بما يكفيهم ويحفظ ماء وجههم وتخصص لكل عائلة راتباً شهرياً مناسباً لها يكفيها فلا يحتاج المرء بعدها أن يتسول أو يسرق أو يمد يده لأحد، فالمؤمن عزيز النفس.
وهاهو سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يقطع أيدي السارقين الذين قبض عليهم وجيء بهم له أيام القحط والذي عمّ البلاد والعباد بزمنه، لأنه تحقق أنهم ما سرقوا إلا ليأكلوا ويشربوا وتأكل عيالهم وأبناؤهم، بل خصص لهم ما يكفيهم من بيت مال المسلمين وما يضمن لهم عيش الكفاف.
أما في الأحوال العادية ولما أزال الله القحط عن البلاد وكشف الغمة عن العباد، فهو على علم تام أن بيت مال المسلمين يكفي ويؤمِّن العيش الكريم والكفاف لكل الناس من مسلمين وذميين وهذا لأن جميع المسلمين يؤدون الزكاة المفروضة عليهم بالتمام ومعظمهم يدفعون الصدقات إضافة للزكاة وبها يتمول بيت مال المسلمين.
وفيما لو قبضوا على سارق والمجتمع الإسلامي في كفاف وتكافل اجتماعي تام فهذا تقطع يده ويطبق عليه حكم الله العادل.
طالما عيش الكفاف مؤمَّن للجميع فليس هناك أحد بحاجة لأن يسرق إذا تأمَّن له كل ما يحتاجه من طعام وشراب وكساء فإذا سرق والحالة هذه فلماذا يسرق؟!. إذاً فهي لعلة فطرية خبيثة في نفسه وحكم الله يطبق عليه لعدم وجود مبرر له على فعلته وسرقته.
إذن: حكم قطع اليد اليوم لا يجوز تطبيقه أبداً، فيا أخي السائل: أنت تراه مستصعب في هذه الأيام الشديدة إلا أنه غير جاري المفعول، فهذا الحكم يتوقف كما توقف زمن سيدنا عمر أيام القحط والمجاعة التي عمت البلاد وجواز ذلك بالقياس.
فحكم قطع اليد ليس مطلقاً في أي زمان وفي كافة الظروف، بل هو حكم إسلامي يطبق في عهد إسلامي ضمنت الدول الكفاف المادي والتكافل الاجتماعي لكافة أفرادها.
إذن: فيجب التحقق من السرقة قبل القطع فإذا كانت لحاجة ماسة فلا تقطع اليد، بل يتم سدُّ هذه الحاجة وتأمين الكفاف، ثم إن سرق بعدها فهذا العمل ليس ناشئاً عن عوز أو فقر أو حاجة حيث أنه مكتفٍ مادياً من كل ما يلزمه فلماذا سرق؟! إذاً لا شك أنها لعلة فطرية خبيثة شريرة في نفسه يلزم اجتثاثها وهذه لا تزول إلا بعلة جسدية تحميه من العلة النفسية الفطرية التي سوف تحرقه في النيران خالداً فيها أبداً فقطع اليد دفع عنه هذه النيران فكلما خطرت على نفسه خاطرة السرقة واعتلج بنفسه حبها نظر إلى يده المقطوعة ثم أتبعها نظرة أخرى إلى يده السليمة، ويخيل له في حال معاودته السرقة أنه سيفقد يده الأخرى أيضاً، هناك يتملكه الخوف على يده السليمة ويدب في أوصاله الرعب فيرتدع عما جال في نفسه.
وهكذا فالقطع ليد السارق يكون في مجتمع إسلامي متضامن متكافل لكل أفراده، وهو كذلك حكم عادل فيه الخير الكبير بحق السارق، فهو عندما تقطع يده ويفقدها تخاف نفسه من السرقة مرة أخرى لأنه يعلم تماماً أنه إذا سرق ثانية فسيفقد اليد الثانية بلا ريب.
أما بالنسبة لتنفيذ الحكم فيتم على مرأى الناس جميعاً وفي مكان عام كالسوق الرئيسي مثلاً، وتبقى اليد المقطوعة معلقة عدة أيام في الساحة الرئيسية للبلد، والناس عامة يرونها وهي معلقة فيعتبر بها كل شخص تراوده هذه العلة الفطرية الخبيثة أو تجول في نفسه، ويسأل الأطفال الناشئة آباءهم عن قصة اليد هذه، فيقال لهم: هذه يد السارق وهذا جزاء السارق.
هذا المشهد المثير ومنظر اليد المقطوعة والدماء تقطر منها يتملك نفس الطفل المشاهد ويأخذ ساحة نفسه ذهولاً ودهشة وتنتقش في نفس الصغير الذي فيه هذه العلة انطباعات مخيفة من قصاص السرقة وترتدع نفسه كلما غلب عليه حب السرقة فيتذكر اليد المقطوعة وينظر ليده الغالية ويتخيل أنها ستقطع فيما لو سرق فتخاف نفسه السرقة لما قد رأى من قطع يد السارق ويكبر الطفل وهو يخشى من قطع يده إن طبق ما يجول في نفسه من شر أو سرقة، وهكذا صار القصاص شفاءً من تلك العلة الفطرية للسارق وعبرة لغيره من أصحاب تلك العلة الفطرية الخبيثة.
وبذلك يخلص المجتمع كله من هذه العلة ويغدو آمناً من السرقات وما يتلوها من إجرام، كل هذا بصحيفة صاحب اليد المقطوعة، يسجِّلُ الله كل ذلك الاعتبار والردع والكف عن السرقات في سجلّ أعماله حسناتٍ وأعمالاً صالحة لمن قطعت يده، وليس هذا الأمر بمستسهل إذ غدا المجتمع كله يرفل بالأمن والأمان وسلمت أيدي الآخرين من القطع هذا كله بصحيفة الذي قطعت يده.
وهو ذاته لم يعد يتجرأ على السرقة ثانية وقد تمهد له طريق الإيمان، لأن العقبة التي كانت تحول بينه وبين الإيمان وبين الله، والصخرة التي تقف عثرة في طريقه إلى الله قد زالت، فهو الآن لا يجرؤ على السرقة للعاهة الجسمية التي لزمته، فالآن أضحت سبل الإيمان لديه مُيَسرة فإن سلك طريق الإيمان والمؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأعراضهم (فالمؤمن لا يسرق) كذا المسلم من سلم الناس من لسانه ويده فهو أيضاً لا يمدّ يده ويسلب الآخرين أموالهم. فإذا لم يسلك طريق الإيمان ولم يكن حتى مسلماً فهذا يسرق وهو والحالة هذه، سيُحرم من الجنان وسيؤول إلى الجحيم.
أما في حالة إيمانه الإيمان الذاتي كما آمن سيدنا إبراهيم وبالصلاة الصحيحة التي يسري النور الإلۤهي فيها على قلب المؤمن المصلي وتنغمر نفسه بالنعيم والسرور، وتنقلب صفاته وتزول منه الشهوات الخبيثة وتتبدل طبائعه بصفات الكمال فيطهر من كل ما قد علق بنفسه من أدران ويغدو في مراتع الطهر والعفاف والكمال فليس هناك عمل منحط يقف بينه وبين خالقه حجاباً ولا علة خبيثة تمنعه من الاتجاه إلى الله اتجاهاً صادقاً فهو ذو وجه أبيض يُقبل في صلاته على خالقه ويتحلى بالفضائل وتزدان نفسه بوشائح الإنسانية والكمال ومثواه بعد الموت الجنات بدل النيران التي كانت ستحيط به فيما لو لم تقطع يده وعاش مجرماً سارقاً.
قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} سورة البقرة: الآية (179). ولهذا خلقنا الله للسعادة خلقنا ومن أجل نيل التقوى ولا يهم مهما لاقى الإنسان في سبيلها من صعوبات وعقوبات وقصاص إن كان في نفسه علل وأدران، فالمهم أن يشفى منها مهما كلَّفه هذا ولو كان عاهة جسمية وبالآخرة الجنة فلا ضير، وكما يقال: (الآخرة يا فاخرة).
أما في يومنا هذا فتطبيق حكم السرقة وقطع اليد غير جائز أبداً، وهو محرم تحريماً قطعياً لعدم الكفاف المعيشي وعدم التكافل الاجتماعي والتضامن.