سيدي الفاضل جزاكم الله خيراً على هذا الموقع، أريد أن أسألكم سؤالاً لي تجربة معه:
كيف أحقق التوبة النصوح؟ علماً أنني أتوب ثم أسقط في الذنب.
لتحقيق التوبة النصوح شرطان أساسيان لا غنى عنهما:
1- من أراد التوبة النصوح صادقاً بهجره للمنكر والحرام فعليه أولاً بترك أهلها وهجرهم، إذ أنَّ: (المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يُخالل) حديث شريف. وطالما أنه يجالسهم والله نهى عن ذلك فسيجرّونه إلى السوء، وسوف تترك هذه المجالسة نتائج سيئة على الإنسان الذي جالسهم، بل سيصبح كامرأة سيدنا نوح عليه السلام التي أحبت ابنها الكافر فكفرت، أو كامرأة لوط عليه السلام التي أحبت قومها الكفار فكفرت.
(فمجالسة أهل الهوى منساة للإيمان محضرة للشيطان) فسرعان من جالس أهل الهوى أن أرداه الشيطان في بوائقهم، فالنفوس تتأثر ببعضها وتتشرَّب بشكل لا شعوري أثناء المجالسة والاختلاط (الطبع سراق فجانبوا أهل البدع)، فمن المحال أن يثبت امرؤ على التوبة ما لم يترك أهل المنكر، لذا أمرنا تعالى بقوله: {اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}. إذاً أولاً تتحقّق التوبة النصوح بمصاحبة الصادقين التائبين العابدين وتجنّب الذين أوتوا شهواتهم هؤلاء يهلكونك.
2- السعي الجاد والدؤوب للوصول للإيمان الحقيقي، والسلوك بطريق سيدنا إبراهيم عليه السلام التفكري، للتحري والبحث عن الإلۤه من ثنايا صنعه ومخلوقاته، بعد التفكر بالموت (وكفى بالموت واعظاً)، وكم وكم في هذا الكون من آيات دالة ناطقة بعظمة الخالق وحكمته شاهدةً على عدالته تعالى ورحمته. هؤلاء الذين سلكوا طريق التفكير في الكون، بعد تيقّنهم بالموت، ورأت نفوسهم ما فيه من العظمة والآيات الدالّة على الحكمة الإلۤهية والرأفة والرحمة، تُكسبهم رؤيتهم هذه تصديقاً وثقة بخالقهم العظيم.
وبالمثابرة بالتزام المرء بهذه المدرسة الإيمانية تتفتَّح منه عين البصيرة وتنعم نفسه بالقرب بمن به الكائنات بأسرها تنال وتتنعَّم، وتعود إلى الوفاء بعد الجفاء والقرب بعد البعد والحب والهيام بالله بعد جفوةٍ وانقطاعٍ، بذا تشتق النفس وتستقي من معين الحضرة الإلۤهية تغذية لا تميل بعدها إلى الدناءات، وتسمو وتتسامى بأنسها بربها، وتشرب وترتوي من ربّها شراب الحياة السرمدية ماءً غدقاً لا تظمأ بعده أبداً، وتخلد بإيمانها وصلتها وصلاتها بربها واستنارتها الوثيقة بنوره تعالى إلى الروح الدائمية المرفقة بالريحان وجنات النعيم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فبالوصول بهذه الأصول تكون قد نالت الكمالات الإنسانية، وتنمحي منها صفات السوء والمنكر والخداع، وتغدو وقد تدثَّرت بوشاحات الفضائل كلّها، وازدانت بسعادة لن تخرج منها، وتكسب المعالي وتسمو للإنسانية الحقّة. (تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة): فبالتفكير بصدق للوصول للحق والثبات على التوبة تؤمن كما آمن أبونا إبراهيم عليه السلام وسيدنا محمد ﷺ بغار حراء {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ..} [الأنعام: 90]، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
وعلينا ألّا ننسى أبداً المثابرة على ذكر الموت، هاذم اللذّات ومفرّق الجماعات، لأنه يجمع النفس مع الفكر، فلا تسير النفس بأهوائها بل بقناعتها، وتجتمع النفس والفكر فتتفتَّح البصيرة وتشاهد النفس كل ما تفكر به، وتسري النفس من الجسد إلى خالق الأكوان فيصبح ما ذكرناه كلّه مشهود وملموس ومحسوس.
ولمزيد من التفصيل يرجى الاطلاع على كتاب الإيمان أول المدارس العليا للتقوى لفضيلة العلّامة الجليل قدّس سره.
ملاحظة:
ومن الجدير ذكره: أن التوبة النصوح والإقلاع عن الذنوب كفيل بفتح الباب، أما العمل الصالح فهو الجناح الذي يهبك القوة على الدخول، ومن لا عمل صالح له فهو مقعد في مكانه لا قوة له تساعده على التقدم والدخول، لذا رغّب رسول الله ﷺ بالأعمال صغيرها وكبيرها بقوله: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق...) ، (الكلمة الطيبة صدقة وإماطة الأذى عن الطريق صدقة)، وهكذا فالعمل الصالح الدافع للرقي والعروج، وإيمان بلا عمل كسحاب بلا مطر.