السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد:
جاء في كتاب الله العزيز بعد بسم الله الرحمن الرحيم {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ، وَمَا لَا تُبْصِرُونَ} سورة الحاقة: الآية 38-39.
ثم جاء في سورة الحجر الآية 72: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}.
السؤال هو: كيف قال الله سبحانه وتعالى أنه لا يقسم بأي شيء نبصره وأي شيء لا نبصره في آية ثم أتى على ذكر قسم بعمر الرسول الكريم؟
الرجاء تأويل هاتين الآيتين على تلك المفارقة وحاشا لله من ذكر شيئين متناقضين في كتابه العزيز.
جزاكم الله كل خير وشكراً.
يقول تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ، وَمَا لَا تُبْصِرُونَ}.
المعروف عموماً أن العظيم لا يقسم إلا بعظيم حقاً، وتأبى العظمة الإلۤهية اللامتناهية القسم بالكون وما فيه من سموات وأرض وما فيهن، إذ هذا الكون بما فيه هين ويسير على رب العالمين، وتلك مخلوقات لم تحمل التكليف، فالله يقول: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ، وَمَا لَا تُبْصِرُونَ}: أي جميع ما يقع عليه بصرك من عوالم مادية، كل ما تراه بعينك هذا على الله يسير والكون كله بكلمة كن كان. فالخطاب هذا في الآيات موجّه لهؤلاء عميان البصيرة وذلك ما تشير إليه الآيات بعدها: {..قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ} ، {..قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}.
إذن، الخطاب موجّه لهؤلاء الذي لا يؤمنون {..فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} سورة الحج: الآية (46): وبما أن الخطاب في الآيات عن أناس لا يؤمنون. والله أمر رسوله أن يخاطب الناس على قدر عقولها، فكيف هو سبحانه وتعالى ألا يخاطبهم على حسب درجة فهمهم فالحديث بآية: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ، وَمَا لَا تُبْصِرُونَ} إنما يتحدث عن رؤية بصرية وليس رؤية بصيرية، فالله يقول:
{فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ، وَمَا لَا تُبْصِرُونَ}: فكل ما تقع عليه عينك من مخلوقات، هذه لا يقسم الله بها، وكذا هناك عوالم لا يستطيع الإنسان رؤيتها كالأجرام السماوية من نجوم ومجرات وما فيها هذه كلها لا يراها الإنسان، كذلك لا يقسم الله بها، وهنالك مخلوقات دقيقة لا تراها العين لدقة حجمها كذلك لا يقسم بها الله وهي منطوية تحت كلمة: {..لَا تُبْصِرُونَ} فالله لا يقسم بهذه.
فالله لم يقسم بآياته أبداً بما تبصر الناس قاطبة وبما لا تبصر رغم عظمتها بالنسبة لنا، إلا أنها ليست عظيمة بالنسبة لرب العالمين لأنها مخلوقات لم تحمل الأمانة والتكليف فكان رقيها النفسي محدود ولم تفز بما فاز به الإنسان العظيم الذي حمل الأمانة وحقق مراد الله من خلقه فنجح بها نجاحاً منقطع النظير صلى الله عليه وسلم، وبذّ بصدقه وسبقه جميع الكائنات وكان له قصب السبق بين الناجحين الأوائل، ذلك هو السابق الأسبق سيد السادة النبيين والمرسلين والعالمين أقسم الله بحياة الرسول العالية الغالية صلى الله عليه وسلم إذ قال تعالى: {لَعَمْرُكَ..}: يا محمد وحياتك العالية: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}: لعمرك الذي لم تضيع منه لحظة إلا كسبتها في الخيرات وعمرك السامي المليء بجلائل الأعمال والبطولات المشحونة بالجهاد الإنساني المقدس والتضحيات، المتميز على سائر القرون بالفضيلة، فكان نبراساً يهدي البشرية إلى ما تصبو إليه من كمال وفضيلة وحياة طيبة.
وعمره صلى الله عليه وسلم الذي ليس فيه نقص ولا شائبة إنما هو من كمال إلى أكمل ومن رقي إلى أرقى عروج في بحور الأسماء الحسنى دون تقصير أو كبوة، لذا خصه الله بالقسم دون العالمين طرّاً، لما له من عظيم الشأن وعالي المكانة فعظّم وأكرم وأنعم وأكبر بعمر هذا الرسول الكريم وصلِّ وسلم عليه تسليماً، يأتك الخير العظيم بأجمعه فهو صلى الله عليه وسلم بجهده وجده واجتهاده استحق أن يتنزل عليه الذكر للعالمين من بين العالمين.
إذن، لا يقسم تعالى بما نبصر بأعيننا ونحصل عليه بعلمنا البشري وندركه بحواسنا وبتفكيرنا والكلام عن عدم القسم بالبصر لا البصيرة، لأن مشاهدته صلى الله عليه وسلم بالصلاة هي مشاهدة قلبية نفسية لا تستطيع العين أن تحيط بذرة من جمالها.