في سورة الفتح الآية (10) لِمَ وردت (عليهُ) بضم الهاء؟

ضمير الغائب إذا دخل على حرف الجر وهو (على) كان مكسوراً مثل: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ..} ومثل: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ..}، ولكن جاء في سورة الفتح مضموماً في قوله تعالى: {..وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ..}.

{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [الفتح: 10].

عندما خرج المسلمون مع رسول الله ﷺ من المدينة قاصدين البيت الحرام معتمرين، رفض أهل مكة دخول المسلمين وكان صلح الحديبية، بعث رسول الله ﷺ عثمان بن عفان رضي الله عنه للمفاوضة مع قريش، ولما تأخّر سيدنا عثمان ظنَّ المسلمون أن المشركين غدروا به وقتلوه، فكانت بيعة الرضوان، بايع المسلمون رسول الله ﷺ على الشهادة في سبيل الله، إذ أنهم لم يخرجوا للقتال ولم يعدّوا له العدّة، إنما كان خروجهم للعمرة فقط، وفوجئوا بهذه الحادثة، فبايعوا الرسول على القتال في سبيل الله حتى الشهادة، ومعنى المبايعة هنا هي أخذ العهد والمواثيق وهي المشاركة مع رسول الله ﷺ، فقد باعوا نفوسهم لله وللرسول وشاركوا رسول الله ﷺ بأن لهم الجنة، فضحُّوا بالغالي وبأعزَ ما يملكون (والجود بالنفس أسمى غاية الجود)، لذا ضمهم رسول الله ﷺ بعهدهم هذا وغمرهم بحاله الشريف القدسي، فارتفعوا إلى مراتب ومنازل ما كانوا ليبلغوها لولا مشاركتهم ومبايعتهم لرسول الله على الموت.

بايعوا الرسول يعني بايعوا الله، هو ﷺ خليفة الله في أرضه وسفيره، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ..}: بلغوا في هذه البيعة التقوى، قال تعالى: {..وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا..} [الفتح: 26]. والتقوى: هي الاستنارة الدائمية بنور الله، فقد شاهدوا أسماء الله الحسنى عن طريق رسول الله ﷺ ورفعهم رسول الله ونهض بهم، وبضمّه لهم وانضمامهم له ورسول الله دوماً مع الله لذا صار لهم الدخول على الله وبلغوا مرتبة التقوى، واسم الله هو لفظ الجلالة المفخّم الجامع لأسماء الله الحسنى كلها.

وإذا بدا لنا أن المبنى تضارب مع المعنى، ونظر الإنسان بكلام ربه نظرة المفكر لوجد أن المبنى يتبع المعنى ويخضع له، ولوجد أن المعنى جاء بهذه الصيغة ليبيِّن المعاني السامية من وراء ذلك، فاللغة العربية تخضع للمعاني القرآنية السامية العليّة، فالمعنى هذا لا يأتي الخفض والكسر، أي: (عليهِ). إنما هو بالرفع والضم (عليهُ). فهم بهذا العهد الذي عاهدوا الله والرسول عليه سموا وعلوا ودخلوا مدخلاً كريماً على الله وغدوا بقلوبهم في الجنات ولن يخرجوا منها، وهذه الشهادة تختلف عن أي شهادة أخرى، هنا الشهادة عن طريق رسول الله ﷺ بذاته وبمشاركته ففيها الدخول على الله تعالى من أعظم باب وبه ﷺ يتم بلوغ درجات عليَّة لا يستطيع المرء بلوغها بدون رسول الله وبها الرفع والنهوض، (عليهُ): أي على العهد ولا يمكن أن تكون هذه إلا بالرفع وليس بالخفض وهذا الرفع ليس بعده خفض أبداً.

ومن الأمثلة الواردة في القرآن، والذين سموا وعلوا عن طريق رسولهم وسراجهم المنير، السحرة الذين قدَّروا وعظَّموا سيدنا موسى عليه السلام فدخلوا من بابه على الله وبذلك ارتفع قدرهم وسموا فوق العالمين وضحّوا بالدنيا وما فيها، إذ قالوا لفرعون: {..فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه: 72]: لا قيمة لها عندنا، شاهدوا الأزل والآخرة وتحدَّثوا عن أحوال أهل الجنة وأحوال أهل النار، وذلك بلمح البصر ودون أن يسمعوا هذا البيان العالي من أحد، إنما فقط بارتباط نفوسهم بنفس سراجهم المنير سيدنا موسى عليه السلام وتقديره وتعظيمه، فبعد أن كانوا في أسفل سافلين أضحوا في عليين، ونهوض بعد انخفاض وعزٍّ بعد انكسار.

إذن: (عليهُ) هذا الرفع دلَّ على علو شأنهم ورفعتهم بدخولهم المدخل السامي عن طريق رسول الله ﷺ الذي لا انخفاض بعده.
إذن: حتى الحركات من كسر ورفع ونصب لها معانٍ سامية في القرآن.

هذا من ناحية ومن ناحية أخرى: إن لله تسع وتسعون اسماً مجموعة في اللفظ المفخَّم (الله)، وهؤلاء الصحابة الكرام عندما بايعوا رسول الله ﷺ تحت الشجرة عملياً بايعوا الله تعالى بلفظها المفخَّم والذي يدلُّ على كامل الأسماء الحسنى، وذلك ما تشير إليه الآية في مطلعها: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ..}.
إذن هم بايعوا الله تعالى، واسم الله جامع لكافة الأسماء الحسنى، وبذا صار لهم الدخول على الأسماء الحسنى جميعها، وفي تتمة الآية: {..وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ..}، كذلك سوف تأتي حصراً باللفظ المفخَّم (الله) لأنهم بالأصل عاهدوا (الله) والوفاء سيكون مع (الله) باللفظ المفخَّم، ولا يصح أبداً أن يكون (الله) باللفظ المرقق، لأن لفظ (الله) المرققة إنما تدلُّ على اسم واحد فقط وهو الإلۤه، وبذلك يكون فيه انخفاض مرتبتهم ومنزلتهم.
والصحيح أن تكون (الله) باللفظ المفخَّم لتبقى لهم مرتبتهم مرفوعة بالرفعة (عليهُ)، ودخولهم على سائر الأسماء الحسنى، وليرفلوا بلباس التقوى.
{..وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ..} [البقرة: 212]: يومها ترى الخلائق فوقية المتقين كهؤلاء على العالمين.