السلام عليكم
سيدي الفاضل أرجو شرح الآيات من سورة القيامة بسم الله الرحمن الرحيم {كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} ولكم جزيل الشكر.
يقول تعالى في سورة القيامة:
26- {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ}: وكلمة (التراقي) مأخوذة لغوياً من الرقي فالنفس عند الموت تنسحب من أسفل الجسم (القدمين) إلى أعلى لأن الرقي من الأسفل إلى الأعلى حتى تصل إلى عظمتي الترقوة وهذا في حال النزاع حيث تنسحب الروح من أسفل القدمين فصاعداً إلى أعلى الجسم، وبانسحاب الروح من قبل ملك الموت يفقد الجسم حرارته، فترى المحتضر أول ما يبرد فيه قدماه وكلما انسحبت الروح من عضو تدريجياً نحو الأعلى تحلُّ البرودة والنفس لا تمكث بالبرودة، لذا تراها تتبع الروح شيئاً فشيئاً في الترقي نحو الأعلى، وهكذا إلى آخر المطاف عند عظمتي الترقوة وعند الحلقوم تبدأ النفس بالتردد وترفض الخروج حيث أنها تجهل إلى أين الذهاب "والإنسان عدو ما يجهل"، فتراه يتشبث بالجسد لا يريد الخروج منه ويصبح نزع الروح كنزع الحرير من الشوك هذا بالنسبة للكافر.
فالآية تعني: كيف بك إذا بلغت نفسك هذه اللحظة وهي لحظة الفراق وترك الدنيا إلى مجهول ووصلت إلى هذا الحال فما هو مآلك، فلتفكر في هذه اللحظة الحاسمة {..وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ..} سورة الأنعام: الآية (93).
27- {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ}: الملائكة تقول: (من راقٍ) وكلمة (راق) مأخوذة من الرقي، وهو العلو والرفعة، كذا مأخوذة من الصفاء والنقاء، نقول: راقت الماء أي صفت، وهنا الملائكة تتعجب وتقول وتتساءل: ألا يوجد أحد رقي بهذا الزمان ووفى بعهده ونجا؟! أكلهم فسَّاق! فلكل إنسان ملك موت يناديه عند نزع روحه.
مَنْ الناجح الذي رقي وسعد وخرج إلى الجنان! هل مَنْ حقق الرقي النفسي ونجا ورقي ونجح ودخل الجنات المعدّة له!
تنادي الملائكة بذلك لقلّة الناجحين الراقين في هذا الزمان. الناجح الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم: من مئة ألف مئة ألف حتى توقف نَفَسُه الشريف ينجو واحد فالكل تقريباً يموتون وهم من الخاسرين!
28- {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ}: من كلمة (الفراق): نستنتج أن الآيات تتكلم عن لحظة الموت حيث الفراق هو فراق الدنيا فراق أبدي لا عودة أبداً بعدها.
وهذا الظن إنما هو ظن تحقيقي وقتئذٍ تفاجأ بأنه وصل إلى الموت وأن هذا الظن قد تحقق لا محالة.
29- {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ}: في حال النزاع وخروج الروح تعلو الساق الأولى رفيقتها وتلتف عليها، ويتضايق المحتضر من هذه الحالة، شاهدنا عدداً من المحتضرين يحصل لرجليهم الالتفاف على بعض. أيضاً هناك رؤية نفسية ففي هذه اللحظة تنكشف لدى الإنسان الحقيقة، ومن كلمة (ساق) أي: ما ساقه الله له من إكرام طوال عمره وإنعام، وبما غمره به من فضل ومنّة وإحسان وهو بماذا قابل هذه المعاملات الودية الحنونة الرحيمة، لقد قابل إكرام ربه باللؤم والجحود ونكران المعروف. أكل من خير ربه والتفت لغيره فيرى ما ساقه هو بالمقابل من دنيء الأعمال وقبيح الأفعال ويلبسه حال عمله هذا.
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكـل رداءٍ يرتـديـه جميـل
إلا أن هذا الإنسان نكر المعروف والإحسان، ووقتئذٍ يرى ماذا ساق الله له من فضل وبر وإحسان وماذا ساق هو لنفسه من لؤم وقسوة وبُعد عن الله وتعدي على عباده ومخلوقاته.
30- {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ}: (إلى ربك): يا محمد صلى الله عليه وسلم: يخاطب الله رسوله صلى الله عليه وسلم أنت تعرف رحمتي وحناني عليه، وأنه ذاهبٌ إليّ، وأنا لم أتركه منذ خلقته وعنيت به وهو في بطن أمه، ومن ثم بعد خروجه إلى الدنيا لم تتغير معاملاتي الرحيمة به وهو الآن عندي وأسمائي هي هي لم تتغير، أنت تعرف هذا أما هو لم يتعرف عليَّ، ولم يتعرف على رحمتي وودي ولطفي "لذا ظنه الأسود بربه أرداه وكره لقاء الله" وكره الموت، إذن: هو الذي أوصل نفسه لهذا المآل المخزي وأحلَّ نفسه دار البوار والشقاء، وسبب ذلك كله:
31- {فَلَا صَدَّقَ..}: لو صدَّق الرسول صلى الله عليه وسلم لطبق كلامه وجرت على يديه أعمال إحسان عالية، وما وصل إلى ما وصل إليه، بل لكانت لحظة الموت بالنسبة له يوم سعده وهنائه {..وَلَا صَلَّى}: كذلك هذا هو سبب شقائه أنه لم يكن من المصلين لم يعقد مع ربه الصلاة فلم تنمحِ من نفسه الشوائب والعلل والأدران، إذ الصلاة تحتُّ الصفات الذميمة والشهوات الخبيثة من النفس وتتبدل بصفات كريمة وأخلاق عالية وكمالات حميدة.
فتارك الصلاة لا خير فيه أبداً، والخير كله بالصلاة، والصلاة عماد الدين كله، ومن تركها هدم الدين.
32- {وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى}: كذَّب دلالة الله من القرآن، وذهب يقاومها ويواجهها، وقدّم دنياه الزائفة وباطلها على دلالة الله والحق وحاربهم، وتولى: أي تولى أهل الباطل والفسق والفجور، صاحبهم وجالسهم واتخذهم أخلاء.
33- {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى}: أهله أهل السوء والفحشاء أعداء الدين، ذهب إليهم وهناك أخذ راحته وأعطى لنفسه هواها وأطلقها لمشتهياتها دون حرج أو مانع، فراح يشاركهم بالرذيلة والفواحش والتعدي.
34-35- {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ، ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}:
في هذه الآية الكريمة يبيِّن تعالى لنا معاملاته الرحيمة الحنونة بهذا الإنسان وعطاءاته الكريمة طيلة حياته بل منذ أن أوجده نفساً مجردة في عالم الأزل، إذ أولاه الله الملكات والإمكانيات الكاملة لأن يبلغ أسمى وأرقى درجات الكمال الإنساني، حيث منحه الحرية في التصرف وملّكه الاختيار لا ينازعه في ذلك منازع.
(أولى لك): أي أعطاك الاختيار تختار لنفسك ما تشاء ليكون ذلك حافزاً ودافعاً يدفعك للرقي والسمو، إلا أن الإنسان نظر للحرية أنها ملْكه واعتز بذلك وتكبّر، جعل التولية لنفسه دون النظر لجانب ربه ونسي عهده الذي عاهده عليه ألا ينقطع عن نوره، بل عبَّ من الشهوات دون نور ولا هدى من الله، فعمي بانقطاعه عن الله وعن النور وصمّ وفقد ملكاته جميعها إلا الشهوات هذه ولها نهاية.
(فأولى): أرسله الله إلى هذه الدنيا ومنحه جسداً كاملاً وفكراً يتوصل به إن استخدمه إلى ربّه وجعل له الكون كتاباً مفتوحاً ليفكر به فيتوصل من خلال آياته إلى عظمة خالقه وموجده، فيقرأ فيه إبداع الإلۤه وكرمه وفضله وجوده وحنانه، إذن: لم يتركه ربه، بل أولاه ثانية ما يتلافى تقصيره، وفضلاً عن ذلك كله أرسل له رسلاً تذكره وتنذره وكتاباً سماوياً يهديه ويدله إلى سبل السلام. ولكن الإنسان أولى هواه الذي عماه في الأزل عاد إليه فعمي ثانية ولم يلتفت إلى ما أولاه الله إياه، وراح يمشي بالأرض مكباً على وجهه يفسد فيها ويضل ضلالاً بعيداً إلى أن جاء أجله وساعة الفراق والرحيل إلى عالم البرزخ وفي هذه الساعة العصيبة هل يتركه الله؟! كلا.
(ثم أولى لك فأولى): ثم حرف عطف للترتيب على التراخي. كذلك في عالم البرزخ يرسل له العلاجات والمسكّنات من عذاب القبر وضيقه ووحشته وعلاجات الملائكة الكرام، كل ذلك ليحوِّله عن حاله الجهنمي حال العار والخزي على ما فرّط في جنب الله، إذن: كذلك أولاه الله بالعلاجات عله يعود إلى كنف ربه إلا أنه يبقى في عناده وأنفته وكبره.
(فأولى): وعناية الله لم تنقطع عنه طرفة عين ولن تنقطع عنه أبداً وتستمر معه في الآخرة فيجد في حريق النار وألمها الشديد سلوى لما به من عذاب الذل والعار فيرى المشفى والمسكنات في نارٍ تلظى.
فأولاه الله بالعطف والعناية أيضاً في الآخرة، لأنه لم يطهر في دنياه فالنار لتطهيره ولا يشفيه إلا التجاؤه ووجهته لربه ولا تزكو نفسٌ إلا بالله