{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}

إذا أردت أن تُدرك طرفاً من معنى كلمة (الكَوْثَر) الواردة في سورة الكوثر، وإن شئت أن تلمَّ بشيء مما تُشير هذه الكلمة إليه، فتصوَّر نفسك أمام نهر عظيم هدّار، من أغزر أنهار الدنيا ماءً وأشدِّها نقاوةً وصفاءً، يتدافع ماؤه في تيار قوي سريع، ثم ينصب في شلال كبير كأنه الثلج، لا يستطيع أن يفارق الرَّائي جماله، ولا أن ينقطع عنه الناظر طرفة عين، فإن أنت تصوَّرت هذا التصوُّر، رأت نفسك طرفاً من معنى كلمة (الكَوْثَر)، وعلمت أن الكوثر: هو الكثير المتتالي المتزايد تزايداً متصاعداً باستمرار، الغني غنىً كبيراً بالخيرات. يقول تعالى في سورة الكوثر مخاطباً رسوله العظيم ﷺ:

{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}

وهكذا فكلمة (الكَوْثَر)، لا تقتصر في معناها على الكثير فحسب بل إنّما تضم إلى ذلك أوصافاً عدةً، فهي تجمع إلى جانب الكثرة التواصل والتوالي والتزايد المتتالي والخير العظيم المستمر بلا انقطاع، ويكون ما نفهمه من كلمة (الكَوْثَر)، إذا أردنا أن نصف بها نهراً من الأنهار، إنه النهر الغزير الماء المتواصل الجريان الغني ماؤه بالمواد النافعة للنبات، المتزايد تزايداً لا يمكن أن يلم به فكر أو يحيط به إدراك.

وإذا كنا بما أوردناه من تمثيل وبيان قد أوضحنا لك طرفاً من معنى كلمة (الكَوْثَر)، فاعلمْ أنَّ الكوثر هنا لا تعني ماءً غزيراً ولا نهراً جارياً كبيراً، بل إنما تشير إلى ذلك الفضل الإلۤهي العظيم الذي منَّ به الله تعالى على سيدنا محمد ﷺ، فكان للعالمين نذيراً وداعياً إلى الله وسراجاً منيراً، إنها تشير إلى ذلك الفضل الإلۤهي العظيم الذي تفضَّل به الله تعالى على رسوله الكريم، إذ جعل هداية البشرية على يديه واصطفاه رسولاً إلى الناس كافَّة ورحمةً للعالمين.

والحقيقة أنَّ هداية امرئٍ ضالٍّ والأخذ بيد إنسان تائه إلى سبيل الإيمان، خير لصاحبها من الدنيا بما فيها من متعة ونعيم وسلطان عظيم ومال وفير، وفي الحديث الشريف بما ورد عنه ﷺ:

«لأن يهديَ اللهُ على يديك رجلاً خيرٌ لك مما طلعت عليه الشمس وغربتْ» الجامع الصغير /7219/ طب عن أبي رافع /ح/.

فكم على ظهر البسيطة من حدائق وجنات، وكم فيها من كنوز وزروع وأموال وخيرات، وكم في الدنيا من مناصب عالية وسلطان ولذائذ وشهوات، فإن أنت حظيت بنعيم الدنيا كله وملكت مال الدنيا بأسرها، ومكَّن الله لك في الأرض تتبوَّأ منها حيث تشاء وتتمتَّع بالعز والسلطان، ذلك كله لا يعدل ما تناله غداً عند الله من الأجر والثواب، وما يكرمك به ربُّك من النعيم الأبدي المقيم، بسبب هدايتك امرأ واحداً ودلالتك إياه على الله، وأخذك بيده إلى طريق السعادة والإيمان، وكيف يعدل النعيم الدنيوي الفاني نعيماً أبدياً مقيماً؟. وكيف تعدل متعة ساعة من نهار، جنات عدنٍ تجري من تحتها الأنهار؟.

أم كيف يعدل شهود جمال المخلوق، التمتُّع بمرأى وشهود جمال خالق الكون ومفيض الجمال، والقرب من جنابه العالي والفوز بإكرامه ورضاه!.

فإن كنت ممن أكرمه الله تعالى بهداية إنسان ضالٍّ، والأخذ بيد امرىءٍ زَلَّتْ به القدم فكاد يهوي في مهاوي الرذيلة والهلاك، فقرَّ بذلك عيناً وطِبْ نفساً وسبِّح بحمد ربك على ما تكرَّم وتفضَّل به عليك وأعطاك، فقد أعطاك، خيراً كثيراً وأغناك غنىً كبيراً، وإن كنت في دنياك مريضاً عليلاً لا تملك من مالها حظاً وفيراً فتجارتك هذه عند الله لن تبور، وما عند الله خيرٌ وأبقى وسيجزيك الله بأحسن مما عملت ويزيدك من فضله إنَّه غفورٌ شكور.

وإذا كان الله تعالى يهب الإنسان غداً ما يهبه من عطاء على هدايته امرأ واحداً، فماذا يكون نصيب رسول الله ﷺ من الثواب وقد هدى الله تعالى به الأجيال تلو الأجيال أخرجهم من الظلمات إلى النور وكسَّبهم جنات وجنات، ومئات لا بل آلافاً من أصحابه الغرِّ الميامين، ومن ثم ملايين الملايين على مرِّ الدهور وكرِّ العصور ممن لهم في كل يوم وحين صلة نفسية به وصلاة وسلام عليه، وإقبال بمعيته على الله ورفقة لتلك النفس الطاهرة الزكية ودخول بصحبتها في حضرة الله، وارتشاف من ذلك المعين وفوز بالقرب من الرحمن الرحيم.