بالإيمان يتم تأويل القرآن الكريم

ليس بوسع الإنسان، أي إنسان أن يؤوّل القرآن مهما بلغ من الثقافة ومهما حصل من العلوم حتى ولو حفظ القرآن، وروى الأحاديث بأسانيدها واطلع على جميع المذاهب وعرف اللغة ومصطلحاتها من نحو وصرف وغيرها، كل هذا ما كان ليكفيه إلا بشرط واحد وأساسي، به يرى القرآن وقد توضحت له معانيه ووجده مترابطاً متناسقاً يدور حول نقطة أساسية وهذا الشرط هو الإيمان بلا إلۤه إلا الله. قال تعالى: {..قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ والَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً..} سورة فصلت: الآية 44.

من هذا المنطلق يؤمن باليوم الآخر وملائكته وكتبه ورسله عندها يرى كل ما في القرآن من أوامر ونواه وكل ما فيه من عبر وحكم وأمثال، وكل ما يأمر به تعالى من صلاة وصيام وحج وزكاة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر إن هي إلا أوامر خيِّرة ليقرِّبه بها إليه وليعلم بأنه لا إلۤه إلا هو، فلا يعتمد ولا يتَّكل، ولا يطلب، ولا يستعين إلا به وبدونه لا تحصل له زكاة وطهارة، ولن يكون عنصراً صالحاً للمجتمع مهما كانت التربية ومهما كانت الثقافة التي تلقَّاها من دونه تعالى.

فإن لم تكن معايناً وممارساً ومشاهداً التسيير الإلۤهي، وإذا لم تحصل لك حلاوة الإيمان، ولم تتذوق الرحمة، والعدل والكرم، وإن لم تعلم علماً يقينيّاً بأنه لا فاعل إلاَّ الله، وأنه لا يتحرَّك متحرِّك ولا يسكن ساكن إلا من بعد إذنه، فكيف تستطيع أن تؤوِّل القرآن وتفقه مراميه؟ فالقائد إذا لم يدرس القتال عملياً، لا بد أن يخطئ مهما درس وتعلم، والميكانيكي إذا لم يرَ الآلة وحركتها ولم يختبرها بنفسه فإن علمه عنها يبقى في الحدود النظرية، وكذلك الإنسان قد يسمع وقد يقنع ويصدِّق بفكره فيعرف أن الرزَّاق هو الله، ولكن لا يتَّكل عليه كليّاً، ويعلم أن النصر من الله ولكنه يتهيب غيره، وقد تصيبه مصيبة فتثور ثائرته، وينسى بأن ما أصابه إنما جاء نتيجة ما قدَّمت يداه، فأوْلى له أن يرجع إلى نفسه، لا أن يتَّهم غيره، وبمعنى أشمل إن العلوم النظرية عامة وعلوم الدين خاصة لا تساوي شيئاً دون المحك العملي، فإذا لم يتبع النظر العمل فإن علمه يظل سطحياً.

إن البعيد عن الله لا يعرف مراده تعالى، وهل باستطاعة إنسان أن يعرف مراد ومغزى من لا يعرفه؟ إلاَّ من قبيل الظن والتخمين؟ وإن الظن لا يغني عن الحق شيئاً. إن القرآن حق، والبعيد عن الله لا يعرف إلاَّ الباطل، فكيف يستطيع المعرض أن يعرّف الحق ويبيِّنه. فالإنسان لا يفهم مراد ربِّ العالمين "أي لا يفهم القرآن إلا إذا كان قريباً من الذي نزَّل القرآن".. ولا يستطيع أن يتقرَّب منه إلا إذا سلك طريق الإيمان به، وبهذا التقرُّب ينطبع في نفسه الحق من صاحب الحق، وتغدو نفسه مملوءة من الكمال الإلۤهي، بعدها إذا نظر إلى القرآن وتدبر آياته يجده الحقّ من ربه فلا يؤوِّله إلا بما يتوافق والكمال الإلۤهي. فكلَّما علا الإيمان سما التأويل، وكلَّما سما التأويل فإن تنزيه الحضرة الإلۤهية يكون أكمل.

الإيمان: هو الأساس في تأويل القرآن، أما اللغة وما فيها من نحو وصرف والأدب وما فيه من بلاغة وبيان، والتاريخ وما يحويه من العلوم القرآنية وأسباب نزول الآيات، والسير والعبر والحوادث، إن هي إلا علوم مساعدة وثانوية بالنسبة للإيمان.

إن الرسول ﷺ ما نزل القرآن على قلبه الطاهر ولا استطاع أن يفهم مراد رب العالمين إلا بإيمانه الرفيع، فهو الذي فاق الخلق جميعاً بالقرب منه تعالى وهو الذي أصبح بالأفق الأعلى من بين الرسل الكرام، فشاهد من آيات ربه الكبرى وما كذب فؤاده ما رأى بل هي أشد وضوحاً من رؤيته البصرية. كل ذلك ما كان إلاَّ عندما أضحى قاب قوسين أو أدنى، فأوحى الله في قلبه ما أوحى. فهو ﷺ أول الخلق في الغاية التي من أجلها خُلقوا. قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} سورة الزخرف: الآية 81. ولهذا ما نزل القرآن العظيم على قلبه إلا بالحق وبجدارة. قال تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ..} سورة الإسراء: الآية 105.

فقد تعلَّم منه علماً وفهم من القرآن فهماً لم ولن يبلغه أحد من العالمين قال تعالى في سورة الرعد: {ويَقُولُ الَّذينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرسَلاً قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْني وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} سورة الرعد، الآية (43): مثلي؟ أي ومن عنده علم الكتاب مثلي؟ كل ما جاء به من سنن وكل ما رويَ عنه من أحاديث إنما جاء بها القرآن الكريم ومن علمه العالي به.

إن القرآن بحر ما فرَّط الله فيه من شيء، وهو تبيان لكل شيء من أمور العبادة، والسنن، والشرائع المنظمة للفرد والجماعة والدولة والدول. ولن يقدِّر علم الرسول ولن يقدِّر فضله إلا من سلك مسلكه وأحبَّت نفسُه نفسَه حبّاً تضاءل أمامه حب ابنه وزوجته وأمه وأبيه وعشيرته التي تؤويه. وكل من في الأرض جميعاً حتى نفسه التي بين جنبيه، فعندئذٍ يعلم طرفاً من علم الرسول لهذا الكتاب الكريم.

ومن الخطأ أن يُعتبر الحديث والسنَّة والإجماع متمِّمة للقرآن، بل هي قواعد عملية ونظرية استنبطها الرسول ﷺ من هذا الكتاب، فالنبي محمد ﷺ لم يأت من عنده بشيء وليس هو بحاجة إلى شيء، ففي القرآن تفصيلٌ لكل شيء.

إن القرآن نزل على قلبه في ليلة قدَّر الله فيها حق قدره، قدَّر رحمته وعطفه، وحنانه وعدله، وعظمته، ثم رتَّله عليه آية إثر آية وسورة بعد سورة بحسب الظروف والمناسبات، قال تعالى: {..وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيِّنَ للنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} سورة النحل: الآية 44... إنه شاهد الحق وعاينه فجاء القرآن تثبيتاً وتصديقاً لما شاهده من قبل لقد نزل القرآن على قلبه الطاهر في ليلة مباركة من شهر مبارك في ليلة القدر التي هي خير من عبادة إنسان قضى في عبادته ثلاثة وثمانين عاماً ونيف.

هذا الشهر هو شهر التقوى، فيه تصفو النفس يوماً بعد يوم وتزكو بإقبالها على الله بالثقة التي اكتسبها المرء من صيامه وقيامه، وصدقه، حتى إذا ما بلغت النفس العشر الأواخر تكون قد استوت وزكت، فيكشف الله لها ما يكشف في صلاة التراويح، فتصبح وقد غدت عالمة بقدرته وعظمته، مستسلمة للحق، لا تلتفت إلى سواه، محفوظة بسلام حتى مطلع فجر الآخرة. قال تعالى: {سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} سورة القدر: الآية 5. {وَقَالَ الَّذينَ كَفَرُوا لَولاَ نُزِّلَ عَلَيهِ القُرآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلنَاهُ تَرْتِيلاً} سورة الفرقان: الآية 32.

أي كذلك نحن نزلناه جملة واحدة ثم رتلناه عليك ببيان، وبلاغة عالية حسب المناسبات، ولنثبت به فؤادك، وليكون تأكيداً وشاهداً لك على ما شاهدته من الحق قبل أن ينزل عليك ثانية وتضعه في مصاحف وأي إنسان يسلك مسلك رسول الله ﷺ فإنه يرى في القرآن انطباعاته النفسية، أي أن القرآن يعكس مشاهداته العملية، ويرى تطابقاً بين ما شاهده بنفسه وبين ما شاهده في القرآن فيزداد ثقة ويزداد إيماناً وابتهاجاً.

قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولونَ رَبَّنَا آمَنَّا فاكْتُبنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} سورة المائدة: الآية 83.
{إِنَّا أنْزَلْنَاهُ في لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرينَ} سورة الدخان: الآية 3.
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرقَانِ..} سورة البقرة: الآية 185.