{فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ}

بسْمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحِيمِ.

يريد الله سبحانه وتعالى في الآيات الكريمة التالية من سورة الفجر أن يبيِّن لنا سبب إعراض الإنسان عن خالقه، وعدم معرفته بربه تلك المعرفة التي تخلع عنه الصفة الحيوانية، وتجعله إنساناً حقاً، مُصلحاً غير مفسد، سعيداً غير شقي، ولذلك قال تعالى:

{فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ}:

ولفهم هذه الآية الكريمة لا بدَّ من شرح مفرداتها فنقول:
ابتلاه: مأخوذة من الابتلاء، وهو الاختبار وإظهار حقيقة الشيء، نقول: ابتلى الله فلاناً بهذا المال، أي: أعطاه إيَّاه ليُظهر حاله وما انطوى في نفسه من بخل وشحّ وحرص على الدنيا، أو سخاء وحب للبذل والمعروف والإحسان، ونقول: ابتلى الله هذا الرجل بهذه الوظيفة، أي: ولاَّه إيّاها ليُظهر ما في نفسه من حبٍّ للجاه والسيطرة والشهوات الكمينة أو ما استقر فيها من عواطف الرحمة والإنسانية والغيرة على مصالح الخلق، واغتنامها فرصة لنصرة من لا ناصر له ولا معين، وهكذا فالله تعالى إنما يبتلي الإنسان بهذه الدنيا، وكل امرئ مهما أخفى وأبطنَ لا بدّ له من ساعة تظهر فيها حقيقته وتبدو كوامن نفسه.

أما كلمة (أكرمه): الواردة في هذه الآية فهي مأخوذة من الإكرام، وهو العطاء الكامل الخالي من الشوائب من صحة ومال وطعام وشراب ومسكن إلى غير ذلك من أنواع العطاء. وكلمة (نعَّمه): أي جعل فيه قابلية التذوُّق والتلذُّذ بما أكرمه به ربُّه.

فالله تعالى خلقَ الفواكه اللذيذة، وأعطى الإنسان لساناً يتنعَّمُ به بطعوم تلك الفواكه، وخلق الأزهار العطرة وأعطاه شمّاً يتعرَّف به إلى هذه النعمة، وهكذا أكرم الله تعالى الإنسان بأشياء لا تعدُّ ولا تحصى، وجعل فيه ذوقاً ليتمتَّع ويتنعَّم بها، وقد أراد تعالى بهذه الآية الكريمة أن يلوم الإنسان المُعرض على عدم تقديره ذلك الإكرام وتلك العناية الإلۤهية، فأورد الآية في صيغة الاستفهام ليتساءل الإنسان بنفسه ويختبر ذاته بذاته فيعرف حاله ودرجته من تقديره لإحسان ربه، فهذه الآية تقول:

انظر أيها الإنسان لنفسك إذا ما ابتلاك ربك بأن ساق لك الإكرام والنعمة فهل أنت ممَّن يقدِّر نعمة هذا الرب الكريم!. وهل تعرف أن مصدر هذا العطاء كله من الله؟. وهل أنت حين تشرب الماء، هل أنت حين تتناول الفاكهة والغذاء، هل أنت حين تدخل الدار وتأوي إلى الفراش. هل أنت حين ترى حولك الأهل والأصحاب، هل أنت حين تسير بالطريق وترى العاجزين والفقراء ومن هم دونك منزلة في هذه الحياة. هل أنت حين تدخل عملك وتجلس وراء منصَّتك. هل أنت في جميع هذه الأحوال وما شاكلها ممَّن يذكرُ نعمة الله عليه ويقدِّر إكرام ربه وإحسانه إليه، هل تقول:

ربي أكرَمني بهذا!.وما ذلك إلاَّ من رحمته بي وفضله عليَّ.

وبعد أن بيَّن لنا تعالى أنه إنما يبتلي الإنسان في الدنيا وما فيها من المتعة والنعيم، أراد أن يبيِّن لنا أنّه إنما يبتليه أيضاً بما يسوقه له من الشدائد التي تكون سبباً في طهارة نفسه، فقال تعالى:

{وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}:

وقَدَرَ عَلَيْهِ: أي: ضيَّق عليه. ورِزْقَهُ: أي ما تفضَّل به عليه من العطاء: فالصحة والمال والجاه والسلطان كل ذلك رزق من الله، فهذه الآية تقول: فإذا ما ابتلاك الله بأن زوى عنك شيئاً من عطائه فأنزل بك المرض أو الفقر أو الذل أو سلب السلطان أو غير ذلك من صنوف التضييق والبلاء، الذي يكون سبباً في رجوعك إلى الحق وخروج ما استقر في نفسك من الخبث والشهوة المُهلِكة، هل أنت ممَّن يتعرَّف إلى المصدر الذي جاءت منه هذه الشدة ويستيقظ من غفلته؟.

هل أنت في هذا الحال ممّن يرجع إلى ربه فيقول: ربي أهانني ليبعدني عن هذا الضلال الذي أنا فيه، ويردَّني عن ذلك الطريق المنحرف الذي يعود عليَّ بالشرِّ والهلاك؟.

وهكذا، فالله تعالى إنما يبتلي الإنسان بالعطاء والإكرام تارة، كما يبتليه بالتضييق والمنع تارة أخرى.

فإذا أنت اختبرت نفسك وطبَّقت هاتين الآيتين السابقتين عليها فوجدتها في حالة النعمة ممّن لا تقول: ربي أكرمني، وفي حال الشدة والتضييق ممّن لا تقول ربي أهانني، أي:

إذا كنت لا تعرف المعطي والمانع ولم تُشارف نفسك بعد منازل الإيمان الصحيح، ذلك الإيمان الذي يرى معه المؤمن أن السير كله بيد الله، وأن لا إلۤه إلا الله، فاعلم أن السبب في عدم وصولك لهذا الإيمان إنما هو قصور همَّتك وتقاعسك عن فعل الخير.