{الْقَارِعَةُ، مَا الْقَارِعَةُ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ}

بسم الله الرحمن الرحيم.

في سورة القارعة من القرآن الكريم؛ تعني كلمة "القارعة": تلك الصيحة، وإن شئت فقل ذاك النداء الذي ينادى به الناس يوم القيامة من بعد خروجهم من قبورهم للوقوف بين يدي ربهم، والسؤال والحساب على أعمالهم.
وقد سميت تلك الصيحة بالقارعة لأنها حينما تسمعها الخلائق تهتز لهولها القلوب خوفاً، وتضطرب لها النفوس فزعاً.

وقد وصف الله تعالى ذلك الحال الذي يعتري الأنفس حينما تسمع النداء يوم القيامة في مواضع عدّة من القرآن الكريم، وعرَّفنا بما يصيب الناس من الرعب والفزع، من ذلك قوله تعالى في سورة الزمر:
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.

فإذا كان في ذلك اليوم العظيم يبتُّ بوضع كل امرئ ويتقرر المصير، وإذا كان الناس حينما يسمعون تلك الصيحة والنداء يعلمون ما سيكون وراءها من سعادة مستمرة، وخلود في دار النعيم، أو شقاوة أبدية وخلود في نار الجحيم، فكيف لا يخاف الإنسان يومئذ ويضطرب، كيف لا يخاف المقصرون نتائج أعمالهم ومغبة تقصيرهم وشذوذهم.

فإذا كان الإنسان في هذه الحياة يبيت مؤرقاً فلا ينام ليلة إذا أراد مواجهة حاكم يريد أن يحقِّق معه في قضية من القضايا أو تهمة من التهم مخافة أن يكون مديناً أمام القضاء، معاقباً على ما بدر منه من تقصير أو مخالفة.
إذا كان الطالب في المدرسة يضطرب قلبه وجلاً ويرتعب حينما يسمع قرعة الجرس معلناً بدء الامتحان اعتقاداً منه بأن التوفيق والسعادة الدنيوية متلازمان مع النجاح، وأن البؤس ومرارة العيش. يرافقان الرسوب والإخفاق، فكيف لا تخف أنفس وتصعق، وقد سمعت ذلك النداء، وتلك الصيحة التي يتبعها سؤال وحساب، فإما فوز ونعيم وسعادة لا حد لها ولا انتهاء، وإما نُزُلٌ من حميم وتصلية جحيم، وشقاء وحريق لا يستمر على صاحبه العام والعامين، ولا القرن والقرنين، ولا الآلاف من السنين حتى ولا ملايين الملايين، بل يدوم الشقاء ويتوالى العذاب على أهل النار أبداً، وما هم منها بمخرجين.

ولذا سمّى الله تعالى تلك الصيحة التي تنادى بها الخلائق يوم القيامة للحساب بالقارعة لأنها تقرع بهولها القلوب فتهلع لها أفئدة، وتصعق لها نفوس، وأنها للجنة أبداً أو للنار وما للظالمين من أنصار.
وبعد أن بدأ تعالى السورة بقوله الكريم:{الْقَارِعَةُ} عظم للسامع أمرها وكبير شأنها فقال تعالى:

{مَا الْقَارِعَةُ}:

أي: وهل عرفت أيها الإنسان ما هي القارعة؟... هل تساءلت بنفسك حينما سمعت بذكرها قائلاً: ما القارعة؟... ثم عظم تعالى للسامع أمر القارعة أكثر وأكثر، فقال تعالى:

{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ}:

أي: ومهما تصورت من هولها وعظيم شأنها، فهي أشد هولاً مما تصورت وأعظم. فما بيان بمحيط بها وصفاً، ولا قول بموصل لحقيقتها إدراكاً، لكنه تعريف وتحذير، والحقيقة أعظم مما تسمع بكثير.
ثم انتقل تعالى بنا إلى وصف وجيز لما سيكون في ذلك اليوم، فقال تعالى:

{يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ}:

وفي الآيتين الكريمتين المذكورتين تصوير دقيق لحال الناس ووصف بليغ لوضع الجبال.
فجميع من طوتهم الأرض من البشر، وإن شئت فقل سائر بني الإنسان، من لدن سيدنا آدم عليه الصلاة والسلام إلى قيام الساعة وانتهاء الدوران سيجتمعون عندئذ على صعيد واحد، وسيقفون بين يدي ربهم للحساب وإنهم إذ ذاك كالفراش المبثوث كناية عن ضعفهم، فالفراش من أضعف المخلوقات شأناً ومن أقلِّها قوّة.

وإنهم كالفراش تفرقاً إذ الفراش لا تعرف صلة لها بأب أو أم أو قريب من بني جنسها، بل كل واحدة تسير وشأنها، وكل واحدة لا يهمّها إلا حالها، ولا التفات لها إلى غيرها، قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ} سورة المؤمنون: الآية (101).

والمبثوث: هو المنتشر.
فجميع الناس يومئذ واقفون بين يدي ربهم ينتظرون الفصل ليُروا نتائج أعمالهم.
أما الجبال، الجبال الصلبة المتماسكة التي نراها الآن فستكون في ذلك اليوم كالعهن المنفوش.
والعهن: هو الصوف إذا انفصل عن الحيوان، وانقطعت عنه الحياة، ومنه: العواهن، وهي: جرائد النخل اليابسة المنفصلة عن الشجرة. والمنفوش: هو المتباعد الخيوط المتفرق الأجزاء.

وتريد كلمة: (وتكون الجبال كالعهن المنفوش): أن تعرِّفنا بوضع الجبال يومئذ خاصّة، وبوضع الكرة الأرضية لا بل الكون عامّة، فهذه الروابط، وهذه القوى التي تجذب أجزاء الكون وتجمعها إلى بعضها بعضاً، هذه العوامل والجاذبيات الخفية التي تجعل من الجبال كتلاً عظيمة تساعد الأرض على دورانها وتسهِّل لها القيام بمهمَّتها، وتؤمِّن لها السير المنتظم في فلكها ليتأمَّن لك الرزق، ويطَّرد النظام، وتتولَّد الفصول، ويتعاقب الليل والنهار.

أقول: إذا كان يوم القيامة، يوقف عمل هذه القوى ويتعطل عمل الجاذبيات، وهنالك تتباعد الذرات من بعد تجمّع، وتتشتت الأجزاء متفرقة من بعد تجاذب وتكتّل فلا يعود بين الذرَّات هذا التضامن والتماسك. لقد كانت هنالك قوة جامعة تجمعها إلى بعضها بعضاً لتؤدِّيَ عملاً، وتؤمِّن سيراً ونظاماً، أما الآن: فقد تغير لون الحياة وتبدَّل نوعها فلا ضرورة لهذا التجاذب، ولا حاجة لهذا التكتّل والتماسك، فإذا الجبال (كالعهن المنفوش): لأن كل ذات مهما دقَّت وصغرت تعود منفصلة عن غيرها، وإذا كل ما في الكون من ذرَّات قد انفك عن غيره، وإذا الأرض غير الأرض والسموات.

وهكذا، فأنت ترى الجبال الآن عظيمة في كتلها، عظيمة في جرمها ورسوخها، عظيمة فيما تؤدِّيه للأرض من خدمات تساعدها على عملها ووظيفتها، وما هذه العظمة إلا أثر من ذلك التجلّي الإلۤهي الذي بث فيها هذه القوة، وبعث فيها هذا التماسك والتجاذب، فإذا كان يوم القيامة ذوى الله تعالى عن الجبال ما كان يمدُّها به من قوة، وحسر عنها ما كان يمدّها به من جواذب، فإذا هي واهية الشأن ضعيفة الجرم متفككة الذّرات، متباعدة الذرَّات، فهي كالعهن المنفوش.

ويقف الناس يومئذ عامّة بين يدي الله سبحانه على صعيد واحد للحساب، ويؤتى بالنبيين والشهداء، وتبدو لكل إنسان أعماله التي أسلفها في حياته الدنيا، وتخشع الأصوات للرحمن، فلا تسمع إلا همساً، وتعنو الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلماً.