{فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الله تعالى يريد في آيات القرآن الكريمة التالية "من سورة عَبَسَ" أن يبيِّن للإنسان آية من الآيات الدالّة على قدرته تعالى، وكبير عنايته بهذا الإنسان، فلعله إن فكّر فيها استعظم خالقه وقدَّره، وسَلَكَ السبيل التي شرعها تعالى فظفر بالسعادة في الدنيا والآخرة، فقال سبحانه:

{فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}:

ونظر: تعني أبصر مُتأمِّلاً ودقَّق مُفكِّراً، فالآية الكريمة تقول:
إذا أنت لم تنظر أيها الإنسان إلى نشأتك، ولم تفكِّر في خلْقك وما فيه من آيات عظيمة... إذا لم ترَ ما في الكون من آيات؛ نجوم وشمس وقمر وأرض وبحار وجبال وأنظمة بديعة صارمة بالدقّة ... إذا لم ترَ ذلك كلّه ففكِّر في طعامك وانظر إلى الكيفية التي بها يكون إيجاد غذائك!.

أيها الإنسان حينما تشرب كأس الماء ألا يجمل بك... أليس من اللازم أن تفكِّر بها! من أين جاءتني؟ كيف هي عذبة؟ ما تقول لو كانت ملحاً أجاجاً؟ الإنسان إن أمسك ثمرة أو أراد أن يشرب ماء يسمِّي، المراد من التسمية التفكير بهذه النعم حتى تحمد ربك.

لماذا خلق تعالى السموات والأرض، الأشجار، الأثمار! كله من أجل حياتك أيها الإنسان، والحياة ماذا فيها؟ ولِمَ خلقك وأخرجك للحياة؟ فمن لا يفكِّر بالنعم فهذا هو الكافر، إنه يرى مع الله إلٓهاً آخر، إنه يرى فعَّالاً آخر.
انظر أيها الإنسان للشمس هل ينقص من قوَّتها، ما هذا الإمداد! انظر للقمر ودورانه انظر فوائده. إن نظرت عظَّمت وقدَّرت. الحيوان لا يفكِّر، لكن الحيوان أحسن حالاً من الإنسان إذا هو لم يفكِّر. الكفر: هو عدم التفكير بنعم الله.
لقد أمرك رسول الله ﷺ أن تقول عند الشرب بسم الله الرحمن الرحيم وكذلك عند الطعام، لتفكِّر وتتعرَّف وتشكر الله على هذا الفضل العظيم.
البعيد عن الله الذي لا يسمِّي بالله قبل الأكل، فهو لا يفكِّر بالنعم التي يتناولها بطعامه، وكيف خلقها الله تعالى له، ودوّر الكون والفصول والرياح والتراب والشمس والقمر حتى خُلقت ونمت ونضجت واستوت، ثم يسَّرها له بلا مقابل.

إن سمّى الإنسان على طعامه مفكراً بفضل الله عليه عندها يحبُّ ربه، فيميل إليه تعالى، وينال سروراً وتغذية قلبية من وجهته لله، فيطيب بالطعام نفساً وجسماً. وهذه الغاية والحكمة من التسمية، أي: التفكير بنعم الله، بالطعام، لينشأ الحب فالسعادة.

ثم ذكر لك تعالى الكيفية التي يكون بها إيجاد غذائنا فقال:

{أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً}:

وتُشير كلمة (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ) أي: إلى تلك الكيفية وذلك النظام الذي ينصبُّ به الماء من السماء من حيث: تبخير الشمس لمياه البحر وسوْق الرياح لقطع الغمام، وتلبُّد الغيوم في السماء، ثم تكاثفها وسقوط الأمطار... فذلك كلّه إنما يجري وفق قوانين ثابتة. فمن الذي وضع هذه القوانين لتكون سبباً في نزول الأمطار؟.
أما كلمة (صبّاً): فقد جاءت مُطلقة غير مقيدة بوصف، لما تُشير إليه من أوصاف لا يتَّسع لها لفظ واحد، فهي تشمل: صبّاً رفيقاً، إذ ينصبُّ الماء من السماء على شكل قطرات لطيفة، لا تزعج الحبّة الدفينة في الأرض ولا تؤثِّر على الزرع كما لا تُسبِّب أضراراً في المنازل.
وهي تشمل أيضاً صبّاً منظَّماً متوافقاً مع الفصول، وهي تشمل صبّاً متناوباً في فترات متلائمة لسقاية الزرع، وتشمل صبّاً كافياً يفي بحاجة الأرض، وصبّاً شاملاً غير منحصر في بقعة صغيرة في الأرض بل شاملاً لكل منطقة من المناطق، وهكذا ينطوي تحت كلمة (صبّاً) معانٍ شتى.

{ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً}:

وشقّ الشيء بمعنى: صدَّعه وفرَّقه. فالرياح الشديدة التي تهب عقب نزول الأمطار لها أثر في هذا التشقق، فهي تشقِّق الطبقة السطحية من التربة بتجفيفها للقشرة السطحية فتنفصل عن الطبقة الرطبة تحتها وبذلك تجعلها تتشقق تسهيلاً لخروج النبات، كما أنها من جهة ثانية تفصل هذه الطبقة السطحية عن الطبقة التي تحتها حيث الحبَّة المدفونة في الأرض وبهذه الصورة تظل الحبّة في وسط رطب وفير الماء دافئ منعزل عن طبقات الجو البارد، ثم أن هذا التشقق يسمح بدخول أشعة الشمس وتسرُّب الهواء وبذلك تتوفَّر للحبَّة شرائط الإنتاش من حيث وجود الرطوبة والدفء ومن حيث تمتُّعها بالهواء المساعد على التنفس وأشعة الشمس المعينة على النمو.


وإنك إذا ذهبت تفكِّر في كلمة (شقّاً) أدركت السبب في ورودها غير مقيدة بوصف من الأوصاف، فهي تشمل: شقّاً فاصلاً طبقة عن طبقة، وشقّاً سامحاً بتسرُّب الهواء الضروري لتنفس النبات، وشقّاً مُعيناً على نفوذ أشعة الشمس مساعداً على توفير الشرائط الحيوية للنبات، وهكذا ينطوي تحت كلمة (شقّاً) معانٍ لا يتَّسع لها لفظ واحد.

{فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً}:

فبانصباب الماء النازل من السماء المحتوي على المواد الحيوية تسري الحياة في البزرة، فتصبح نبتة حية من بعد أن كانت خامدة ساكنة لا فعل لها ولا حركة.
أما كلمة (حبّاً): فهي تُشير إلى ما تنبته الأرض من صنوف الحبوب المختلفة كالقمح والشعير وغيرهما فهو كله يُسقى بماء واحد وينبت في تربة واحدة، غير أنه يختلف عن بعضه بعضاً من حيث شكله وحجمه ولونه وطعمه وتركيبه الكيميائي وفائدته في التغذية. فمن الذي جعل للحبوب أشكالاً وحجوماً وألواناً وطعوماً وتراكيب مختلفة؟.
وهل هذه النباتات ذوات عاقلة تجرُّ لنفسها ما تجرّ وتدع ما تكره وتأخذ ما تحبّ، أم أن هناك قدرةً تصوغ وتُركِّب وتُجري تفاعلات وتضع معايير، وتسوق ما تسوق من مواد، وتثبت ما تثبت من حيويات؟.

لا ريب أن هناك قدرة عظيمة تقوم بذلك كله وتمد الكون كله بما تمدّه به من قوة ونماء، وتبعث في كل شيء ما يناسبه وما يساعده على البقاء واستمرار الحياة.