من ذا الذي من بني الإنسان لا يحب أن يكون سعيداً؟!

من ذا الذي من بني الإنسان لا يحب أن يكون أحسن وضعاً مما هو عليه؟.
ومن الذي لا يسعى منهم نحو حياة يكون فيها أسعد حالاً وأهدأ بالاً وأكثر استقراراً  وطمأنينة؟.
إن السعي نحو الكمال قانون شامل يخضع له النوع الإنساني قاطبة، ويتميَّز به عن كثير من المخلوقات، وحيث إن الأكثرية الساحقة من الناس يحسبون أن السعادة الكاملة والحياة الطيبة يحققها المرء إذا أصبح ذا مال وفير وغنى كبير، لذلك تراهم يتبارون في جمعه ويبذلون قصارى الجهد في الحصول عليه، يركبون المخاطر والمشاق ويضربون في الأرض في برارٍ وبحار، يتحمَّلون في سبيله ما يتحمَّلون ظنّاً منهم بأنهم يحصلون بالمال على ما يشاؤون ويؤمِّنون به ما يرغبون ويحبُّون.

على أنك إذا ذهبت تبحث وتحقِّق وجدت الأمر بخلاف ما يظنون،  فالمال مهما كثر وزاد ما هو بمؤمِّن للإنسان جميع ما يحبه ويتمنَّاه، فكم من أغنياء حصلوا على الملايين من الدنانير، يتمنون من صميمهم أن لو لم يكونوا مالكين لشيء من المال ولهم من الصحة والنشاط ما للآخرين من الفقراء المعوزين.
ولو أنك قارنت بين الفريقين لما وجدت أولئك الأغنياء أسعد حالاً من هؤلاء الفقراء، بل كم من الأغنياء المثريين باتوا ليلهم تؤرقهم الهموم والأحزان، منبعثة عن أوضاع مؤلمة في الحياة من زوجات أو أولاد أو مخاوف وعدم استقرار، على حين بات الآخرون ملء جفونهم، لا يُنغِّص صفوهم شيء من هموم أو أكدار وإن كانوا لا يملكون شَرْوَ نقير.
وهكذا فليست السعادة في درهم ولا دينار، والحقيقة كل الحقيقة أن السعادة في الرضى، رضى المرء بما هو فيه كيفما تقلَّبت الأيام وتبدَّلت الأحوال ودار الزمان.

السعادة أن ترضى بما أنت فيه، إن كنت مريضاً مدنفاً لا تستطيع حراكاً، أو فقيراً معدماً لا تملك قليلاً ولا كثيراً.
السعادة أن ترضى بما صرت إليه حتى ولو أدى بك الأمر إلى نزولك عن سلطان كبير وجاه عريض.
السعادة أن ترضى وتطمئنَّ نفساً بكل ما يعرض لك من أحوال الحياة، حلوها ومرِّها، عسرها ويسرها، فإذا ما استوت لديك الأحوال، ورضيت بها جمعاً فقد حصلت على السعادة، وفيما سوى ذلك ما دمت في أحوال الدنيا لا ترضى بما أنت فيه فما أنت من السعادة في شيء.

وقد تعجب من قولي هذا فتتساءل متعجباً:
أمن الممكن وهل من المعقول أن يكون المرء راضياً وقد أضحى في حزن الحياة من بعد سهلها، وأصابه عسرها من بعد يسرها، وذلُّها من بعد عزِّها؟. ومن الذي يرضى بما تقول إلا أن يكون جماداً قُدَّ قلبه من صلب الصخر، أو أن يكون متيقِّناً بما يتلو هذه الشدة والعسر من رفعة تفوق أضعاف ما كان فيه من بسطة وسعة ويسر؟.

وفي الجواب عن هذا نقول:
لك الحق فيما قدَّمت من قول واعتراض، وأنه ليس من السهل ولا اليسير أن يرضى المرء بما يحل به من مكاره وشدائد، لكنه إذا علم متيقِّناً أن هنالك يداً واحدة تتصرَّف في هذا الكون وتسيِّره ضمن العدالة الإلهية والحكمة ووفق الرأفة والحنان والرحمة، وأن هذه اليد المسيِّرة والإرادة الحكيمة المدبِّرة هي أرأف وأرحم بالإنسان من أمه وأبيه وصاحبته وبنيه، حتى ومن نفسه التي بين جنبيه، وأنها لا تسوق له إلا ما يكون سبباً في صلاحه وبما يعود عليه بالخير العميم وإنَّ ما أصابه  إنما أصابه بسبب ما قدَّمت يمينه، أقول إذا عرف الإنسان هذا حق المعرفة، لا بل إذا آمن الإنسان بهذا حق الإيمان.

وإن شئت فقل إذا آمن الإنسان حقاً بكلمة الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، فهنالك يطمئن قلباً ويهدأ بالاً ويستسلم كل الاستسلام، ويرضى بتصاريف القضاء رضىً يجعله لا يضطرب لحال ولا يتألم من تبدُّلات الزمان، وكيف يضطرب أو يتألم وهو يرى أن هذه اليد الرحيمة والإرادة العطوفة الحكيمة ما منعت عنه إلا لتعطيه، وما أخذت منه القليل إلا لتمنحه الكثير، ثم كيف يتألم ويضطرب وهو يرى قربه من تلك الذات العلية، يشهد من كمالها ويرى من جلال أسمائها وجميلها، ويشعر بنعيم قربها ولذيذ وصلها، شعوراً ما تُعد لذائذ الحياة كلها إلى جانبه بالنسبة إليه شيئاً مذكوراً.

وهكذا فليس يسعد المرء السعادة الحقة إلا إذا كان راضياً، وليس يرضى حقاً إلا أن يكون مؤمناً بخالقه مستسلماً إليه، شاعراً بحنانه ورحمته ومنه قريباً.

أما الذين أعرضوا عن خالقهم ولم يتعرّفوا إلى ربِّهم، وجمعوا الدرهم والدينار، فليس المال بمؤمِّنٍ لهم ما يتطلَّبون من السعادة، وحياتهم كلها شقاء وأحزان ونغص.

وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله الكريم:
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} سورة طه: الآية (124).
{لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} سورة الرعد: الآية (34).
وذلك أيضاً ما أشارت إليه الآية الكريمة في قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} سورة المسد: الآية (2)