{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}

بسم الله الرحمن الرحيم

التكاثر: هو التنافس والتسابق إلى الاستزادة من الشيء، وأن يكون كل امرئ أكثر له من صاحبه جمعاً.
وإذا أردت أن تدرك طرفاً من معنى الآيات الأولى من سورة التكاثر، وهي قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} أضرب لك المثل الآتي فأقول:

تصوَّر مدرسة من المدارس الراقية الحديثة المبنية على شاطئ البحر في منطقة من المناطق الجميلة، وأن أباً كان شديد الحرص على تقدم أبنائه وتفوّقهم في الحياة، ولذا سجَّل ولديه في هذه المدرسة، وجعل يقدم لهما سائر ما يحتاجان من ملابس ولوازم وأقساط وغير ذلك من ضرورات الحياة المدرسية حباً في أن يكونا بعد إنهائهما مرحلة التعليم في هذه المدرسة، وبما سينالان من شهادات عالية من أعظم الناس في الحياة المقبلة شأناً وأسماهم منزلة، وأحظاهم بالسعادة نصيباً.
ولكن أتدري ماذا كان يفعل هذان الطفلان خلال أيام الدراسة، وفي تلك الفرصة الثمينة المعدَّة للجد والسعي؟... وماذا كان وضعهما في تلك المدرسة ذات النظام الحر؟...
لقد كان رفاقهم ينصرف كل منهم إلى معلمه يدرس ويبحث، ويستزيد من العلم والمعرفة. المعلمون يرشدون ويوجهون، والطلاب يدرسون ويعملون والمجتمع المدرسي كله جد وسعي وإعداد للحياة.
أما الطفلان المذكوران فكانا ينصرفان إلى الشاطئ يقضيان النهار في التمتع بمشاهدة البحر واللهو بصيد السمك ويكدَّان أنفسهما في حفر الرمل بحثاً وتنقيباً عن الأصداف، ويتسابقان في جمع الحصى النادر المثال، حتى إذا ما أمسى المساء، وعاد الطلاب إلى منازلهم وقلوبهم مفعمة بالجيد الجديد من العلم والمعرفة، عاد الطفلان الغبيّان وحقائبهما ملأى بالصدف والحصى وجلسا يعدَّان ما جمعاه ليرى كل منهما من هو أكثر من أخيه جمعاً، وأوفر عدداً.
لقد كان العقلاء من الطلَّاب الذين نظروا إلى المستقبل القريب يغتنمون هذه الفرصة الثمينة ولفترة وجيزة من الحياة المدرسية التي يدنو الطالب في كل لحظة من لحظاتها، ويقترب من الامتحان الذي يتطلب استعداداً عظيماً، وجهداً بالغاً، وكان الطفلان يتلهَّيان في التكاثر في جمع التافه من الأشياء. أفلا يقول لهما والدهما وقد رآهما يضيِّعان الوقت سدى:
ألهاكما التكاثر في جمع الأصداف والحصى، عن الاجتهاد المفيد، والسعي المثمر، والاستعداد ليوم الامتحان القريب؟...
أفلا يذكِّرهما من عواقب هذا اللهو واللعب! وإذا اقتضى الأمر لا يتأخر عن التأديب والردع.
أفلا يحمله الحرص على نجاحهما والاشفاق عليهما وحب الخير لهما على أن يلومهما ويؤنِّبهما على هذا الضلال والغي؟...

ذلك هو مثال يوضِّح لنا حال الناس الذين جاؤوا إلى هذه الحياة وقد ألهاهم التكاثر في جمع الدرهم والدينار عن السعي في طريق الإيمان، والوصول إلى معرفة الله، وما يتلو ذلك من العمل الصالح الذي به ينال المرء في الآخرة ما ينال من النعيم الأبدي، والسعادة الخالدة.

ولذا، ومن رحمة الله تعالى بهؤلاء أن ذكَّرهم ناصحاً، وحذَّرهم منذراً ومبيِّناً فقال تعالى في كتابه العزيز:
{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} سورة الحديد: الآية (20-21).
وقال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ، وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ ، وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} سورة المنافقون: الآية (9-11).
وقال تعالى:
{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} سورة الأنعام: الآية (32).
وقال تعالى:
{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} سورة العنكبوت: الآية (64).

وأوجزت ذلك كلّه سورة التكاثر في قوله تعالى: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ).

ويكون مجمل ما نفهمه من هاتين الآيتين الكريمتين:

ألهاكم أيها الناس، وشغلكم التكاثر في جمع المال، والاستزادة من حطام الدنيا الدنية عن ذلك الغرض الأسمى الذي من أجله أُخرجتم إلى هذه الحياة؟...
وهل تبقون في هذا الحال من الغفلة حتى يوافيكم الأجل وتُحملون إلى المقابر ساعة لا يفيد الإنسان شيئاً من هذا المال، ولا يُغني عنه الندم على ما صدر منه من التفريط والتقصير؟...
ألا ينبغي لك أيها الإنسان أن تفكِّر في نفسك وفيما يحيط بك من هذا الكون؟
أفلا يليق بك أن تتساءل: لماذا أنا أُخرجت إلى هذا الوجود، وما هي مهمَّتي في هذه الحياة، وإلى أين المصير بعد الموت؟...
أما رأيت المقابر وقد غصَّت بأهل البلى، وشهدت لك بسخف الذين اغتروا بهذه الحياة؟...
أتظل لاهياً تسابق وتباري الآخرين في تزيين دارك وتشييد قصرك، وتفاخر بما لديك من متاع الدنيا حتى آخر لحظة من لحظاتك في الحياة، وحتى تزور المقابر؟...

هل كنتم أيها الناس الذين تسمعون هذا الخطاب الإلۤهي ممن رضوا بالحياة الدنيا ورضوا بها فألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر أم كنتم ممن يستيقظون من رقدتهم، ويصحون من نومهم، وينطلقون في البحث عن معرفة ربهم وخالقهم، ويغتمون هذه الفترة الوجيزة، والفرصة الثمينة من حياتهم؟...