«وليس للعبد من صلاته إلاَّ ما عقل منها»

الصلاة هي عماد الدين ورأس الأمر كله؛ وفي بحثنا هذا سنفصل في المراد من الحديث الشريف: «وليس للعبد من صلاته إلاَّ ما عقل منها»‹¹› كما سنبين الحكمة من التوجه لبيت الله الحرام، الكعبة المشرفة.
وبما أنَّ الصلاة هي صلة النفس بخالقها، وبما أن العقل هو روح الصلاة وثمرتها، لذلك كان لزاماً علينا أن نُعرِّف المراد من العقل، وماذا نعقل في صلاتنا والأصول الواجب اتِّباعها حتى نصل إلى العقل. ونبدأ ببيان المراد من العقل فنقول:

المراد بالعقل:

1- العقل النفسي وهو ما توعيه النفس وما تختزنه فيها من بعد أن شهدته ورأته، أما ما يعقله الإنسان في هذه الصلاة التي نحن بصددها فيدور حول أمرين اثنين:
فهو يعقل طرفاً من الكمالات الإلٓهية عقلاً نفسياً من بعد أن آمن بها وعقلها فكرياً، وإلى جانب ذلك يعقل سرَّ التشريع الإلٓهي وبعض ما انطوت عليه الأوامر التي أنزلها الله تعالى على رسوله ﷺ في القرآن الكريم، ويكون عقل الكمالات الإلٓهية بمشاهدة المصلِّي طرفاً من هذه الكمالات شهوداً نفسياً، إذ يرى العظمة الإلٓهية والعدل ويشهد الرأفة والرحمة والعطف والحنان والفضل والإحسان وغير ذلك ممَّا انطوت عليه الأسماء الإلٓهية، وهنالك تتمثَّل نفسه هذه الكمالات وتوعيها وتغدو مستقرة فيها.

2- أما عقل الأوامر الإلٓهية فتكون برؤية ما انطوت عليه من خير، فيرى المصلِّي مثلاً عندما يقرأ آيات الحجاب فائدة الحجاب وما فيه من الخير للمرأة ذاتها وذويها، والمجموعة البشرية كلها. وعندما يقرأ الآيات التي تنهى عن الخمر والميسر يرى ما فيهما من الأذى وما ينجم عن تعاطيهما من مضرَّات. وكذلك الأمر بالنسبة للميتة وما ينشأ عن أكلها من أمراض وعاهات، ويرى الفائدة من الصيام والصلاة والحج والزكاة، إلى غير ذلك من الأوامر التي يعقلها المصلِّي بما يسمعه في صلاته من آيات القرآن. فهو لا يسمع بآية إلاَّ ويرى ما انطوت عليه من معانٍ رؤية متناسبة مع مقدار ما هو فيه من وجهةٍ إلى خالقه وما هو عليه من صلةٍ وإقبال، وذلك ما نعنيه بعقل الأوامر الإلٓهية.

ومن لم يعقل في صلاته طرفاً من الكمالات الإلٓهية، ومن لم يعقل ما في الأوامر الإلٓهية من خيرات، ومن لم يعقل شيئاً مما تنطوي عليه آيات القرآن الكريم التي يتلوها في الصلاة، فليسَ بعجيب أن تُلَفَّ صلاتُه كما يُلَفُّ الثوب الخَلِقْ ويُضرب بها في وجه صاحبها، إذ أنه لم يَفد منها شيئاً.

أما الطريق إلى العقل:

فإنما يكون برفقة ذلك الإمام والاقتداء به وهو في الحقيقة السيد الأعظم ﷺ. ومن لم يُصَلِّ مقتدياً بذلك الإمام فليس يستطيع أن يصل إلى العقل، ولو أنه صلَّى في اليوم مئة ركعة، ولو أنه قام يصلِّي الليل كله.

ولعلَّك تسأل عن السبب وتعجب من هذا القول فأقول:

إذا كان العقل نتيجة لما يحصل عليه المصلِّي من شهود ورؤية نفسية فكيف تستطيع هذه النفس أن تشاهد كمال الله وليس لها نور تُشاهد به هذا الكمال؟.
أم كيف تنكشف لها المعاني وليس لها سراج منير يُريها هذه المعاني ويُبيِّن لها ما في الأوامر الإلٓهية من خيرات!. لذلك فهذا المصباح من لوازم الرؤية، وهذا السراج المنير من لوازم وضروريات مَنْ يريد أن يصلَ إلى العقل. وما ذاك المصباح والسراج إلاَّ رسولُ الله ﷺ. قال تعالى مشيراً إلى ذلك بقوله الكريم:
{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} سورة الأحزاب: الآية (45-46).

الحكمة من التوجه لبيت الله الحرام:

وما أَمَرَ الله تعالى رسوله بالاتجاه شطر المسجد الحرام إلاَّ لتكون نفسه مقبلة عليه تعالى من ذلك المكان لنستطيع نحن أن نولِّي وجهنا شطره حيثما كُنَّا وفي أي مكان وُجدنا فنجعله لنا في إقبالنا على الله إماماً وليكون لنفوسنا سراجاً مضيئاً، وذلك سرّ الأمر الإلٓهي ولُبَابُهُ، وهكذا فالاتجاه إلى الكعبة الشريفة واستقبال هذه القبلة ركن من أركان هذه الصلاة. ومن لم يُصلِّ جامعاً نفسه فيها مقبلاً على الله بصحبة هذا الإمام فلا يَعقِلُ من صلاته شيئاً، لأنه إنَّما يصلِّي وحيداً فريداً، وبذلك يطمع الشيطان فيه ويهرع إليه فيملأ قلبه بالهواجس والوساوس والخطرات، ورسول الله ﷺ يقول:

«عليكم بالجماعة وإيَّاكم والفُرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد»‹²›
«فإنَّما يأكل الذئب من الغنم القاصية»‹³›
وقال تعالى في سورة آل عمران: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا...} أي: عنه ﷺ.

وبناءً على ما قدمناه نقول:

نحن في صلاتنا واستقبالنا الكعبة لا نعبد الكعبة ولا نتَّجه إلى الأحجار، بل إنما نتَّجه من ذلك المسجد الحرام إلى الله.
ونحن لا نعبد رسول الله، بل إنما نتَّخذه لنا في صلاتنا إماماً وفي نفوسنا سراجاً منيراً، تدخل نفوسنا متى أرادت الإقبال على الله من ذلك المكان فتجد إمامها به فتقتدي به وتُقبل على الله بمعيَّته وهو لها نِعْمَ الإمام وخير رفيق.

وتستنير بالنور الإلٓهي الساطع على نفسه ﷺ بسبب إقباله على الله، ويُريها بعض ما استكنَّ في أوامره تعالى من الأسرار والخيرات. وهذا يُبيِّن لنا سرَّ قوله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} سورة الأحزاب: الآية (56).
فما أمرنا الله تعالى بالصلاة على هذا الرسول الكريم إلاَّ لنصل نفوسنا به فتدخل على الله بمعيَّته، وتستنير بذلك النور الإلٓهي الساطع على نفسه. ومن لا صلة له برسول الله ﷺ، ومن لا محبَّة له بهذا الرسول الكريم ﷺ فليس بمستطيع مهما حاول وجهد أن يُصلِّي الصلاة التي أمر بها الله، وهو محروم من ذوق الإقبال على الله، أعشى البصيرة عن رؤية كمال الله، وهو ليس بمدرك شيئاً ممَّا يقرؤه من آيات، قال تعالى:
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ...} سورة الأنعام: الآية (39).

الكعبة المشرفة هي قبلة العالمين من لدن سيدنا آدم عليه السلام

والاتجاه إلى الله تعالى من طريق الكعبة ما هو بالأمر الجديد الذي جاء به سيدنا محمد ﷺ عن لسان الله، بل إنما جعلها الله تعالى قبلة العالمين منذ عهد سيدنا إبراهيم ﷺ. وقد ذكر لنا تعالى أن سيدنا إبراهيم ﷺ إنما كان يعلِّم الناس من قبل قواعد الاتجاه إليه تعالى من طريق هذا البيت. فقال تعالى:
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} سورة البقرة: الآية (127).
وليست الكعبة قبلة لسيدنا إبراهيم فحسب، بل إنما هي أول بيت وضع للناس منذ أن أوجدهم الله تعالى على سطح هذه الأرض، وإن شئت فقل من لَدُن آدم عليه الصلاة والسلام، قال تعالى:
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً...} سورة آل عمران: الآية (96-97).

فالكعبة إذن هي الوسيلة في قيام وجهة الأنفس إلى خالقها في الصلاة وإلى ذلك أشارت الآية الكريمة، قال تعالى:
{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ...} سورة المائدة: الآية (97).
ومشروعية ذلك كما رأيت أن تجتمع الأنفس في كل زمان برسولها المجتمعة نفسه من ذلك المكان إلى الله.

أما وقد شرَّف الله تعالى العالم ببعثة سيِّد ولد آدم فهو ﷺ إمامنا وإمام العالمين. وروح الصلاة أن تُقبل على الله بمعيَّته، وتعرج نفسك إلى الله تعالى برفقته. ومن يؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور.

‹¹›- كنز العمال: ج3. ص382. ح7050.
‹²›- صحيح الترمذي: /كتاب الفتن/ رقم الحديث (2091).
‹³›- مسند الإمام أحمد: /كتاب مسند القبائل/ رقم الحديث (26242).