{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}

بسم الله الرحمن الرحيم

يقول سبحانه وتعالى:

{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}

لمعرفة النفس نقول:
الإنسان مركب من عناصر ثلاثة: نفس، وروح، وجسد. فالنفس هي الشيء النفيس في الإنسان، يُقال: أَنْفَسَ الشيء، أي: كان نفيساً له شأن وقيمة عالية تجعل الناس يتسابقون إليه. ولذلك لا بدّ لنا من كلمة موجزة نتكلم فيها عن النفس فنقول:

النفس: هي ذات الإنسان الشاعرة المستقرة في الصدر والسارية أشعتها بواسطة الأعصاب في سائر أنحاء الجسد. وهذه النفس المسجونة في الجسد إنما تتعرَّف بما يحيط بها من الأشياء بواسطة الحواس، فعن طريق العين تُبصر، وعن طريق الأذن تسمع وبالأنف تشم، وبواسطة الجلد تحس وتلمس، وباللسان تذوق طعوم الأشياء كما تعبِّر به عما يجول فيها من الخواطر والأفكار.

وبشيء من التفصيل نقول:
إذا وقف أحدنا مثلاً على ساحل بحر فلا شك أن رؤيته للبحر تجعله يخشع أمام هذا المنظر ويستعظمه، وهذا الخشوع والاستعظام إنما هو خشوع النفس واستعظامها. وإذا وقع نظرنا على شخص جرحت يده مثلاً جرحاً بليغاً وجعل الدم يتقاطر منها، فلا بدّ أننا نحزن لهذا المشهد ونتألم على صاحبه، فهذا الحزن والألم الذي نجده إنما هو حزن النفس وألمها. وإذا كان أحد أقاربنا الذين نحبُّهم مسافراً سفراً بعيداً وسمعنا بعودته سالماً فهنالك نُسر ونفرح، وما ذاك إلا فرح النفس وسرورها.
وهكذا فالنفس هي العنصر الأساسي في الإنسان فهي التي تستعظم وتخشع، وهي التي تحزن وتتكدَّر، وهي التي تُسرُّ وتفرح وترضى وتغضب وتلتذ وتتألم وعليها المعوَّل.

والنفس هي المخاطبة دوماً في القرآن، وهي المكلَّفة بالسير في طريق الحق، وهي التي تتألم بالنار عندما تُعالج بها وتُداوى، وهي التي تتنعَّم في الجنان فلا تبغي عنها حولاً. وما هذا الجسد المركَّب من اللحم والعصب والعظام والدم إلاَّ ثوب النفس ولباسها، وما الروح المتوارد شعاعها من الله تعالى على الجسد إلاَّ قوة محركة تبعث للنفس الحياة في جسدها وتؤمِّن لها فيه سيرها. وذلك بعض ما نفهمه من كلمة (نفس).

أما كلمة (وَمَا سَوَّاهَا): فإنما تشير إلى ذلك الوضع الكامل الذي خُلقت عليه النفس. يُقال: سوَّى الشيء أي جعله سويّاً مستوي التركيب خالياً من كل عيب، ويُقال: رجلٌ سويٌ، أي: كامل الخلق لا عيب فيه.
وأما كلمة: (وما): فإنما تلفت نظرنا إلى تلك القدرة العظيمة واليد الحكيمة التي رتَّبت للنفس هذا الترتيب، وجعلت لها هذا الجسد على هذه الصورة الكاملة والتركيب البديع.
فالعين تُبصر، والأذن تسمع، واللسان يذوق ويتكلَّم، والأنف يشم، وهذه الأجهزة إنما تستعين بها النفس على إدراك الأشياء، والمعدة تهضم الأطعمة، والكبد يفرز الصفراء ويخزِّن المواد الزلالية والسكَّر ثم يخرجها في أوقاتها بمعايير مناسبة، والكلية تصفّي الدم، والقلب يُنظِّم الدورة الدموية، والرئة تنظِّم التنفس، والكريات الحمراء في الدم كالعمَّال فهي تمتص من الجسم الغازات المضرة ثم تطرحها في الرئتين وتعود منها حاملة مولِّد الأكسجين ذلك الغاز الضروري للاحتراق وبقاء الحياة، والكريات البيضاء في مراكزها كالجنْد المرابط في القلاع تصدُّ الجراثيم وما تفرزه من السموم القاتلة لها... الخ. وهكذا إذا ذهبت تفكِّر في الجسد وجدت تركيباً عظيماً وخلْقاً عجيباً وقد مررنا على ذلك مسرعين إذ أنّ شرْح ذلك يطول وكل عضو من هذه الأعضاء يحتاج في بيان أجزائه ووظائفه إلى صحف مطوّلة.

  • فمن الذي ربط هذه الأعضاء بعضها ببعض فإذا هي كلها ساهرة على قيام هذا الإنسان؟.
  • من الذي جعلك أيها الإنسان على هذا الحال وصوَّرك هذه الصورة البالغة في الكمال؟.
  • من الذي جعل للنفس هذه الحواس تتعرَّف بها إلى ما يحيط بها من الأشياء؟.
  • من الذي جهَّز النفس بتلك الملكات من تفكير وذاكرة وتخيُّل وإدراك؟.
  • من الذي جعل لها ذلك العقل تعقل به الخير من الشر والنافع من الضار؟.
  • من الذي جعل فيها تلك الغرائز والطباع من خوف وسرور وفرح وحزن ورضا وغضب؟. وجعل لها الشعور باللذائذ والآلام؟.
  • من الذي أوجد النفس فأخرجها من العدم وأبرزها للوجود ولم تكن شيئاً مذكوراً فإذا هي أكرم المخلوقات وأرفعها شأناً؟.

أليس يجدر بك أيها الإنسان أن تبحث عن ذلك كله، وتفكِّر في ذلك كله، ثم تتعرَّف على هذه اليد الحكيمة التي كوَّنتك والقدرة العظيمة التي خلقتك وأوجدتك؟.

وبعد أن عرَّفنا تعالى بأنفسنا بيَّن لنا أنه ما خلقنا عبثاً ولم يتركنا سدى بل بيَّن لنا طريق سعادتنا وفلاحنا وعرَّفنا بما فيه خيرنا وصلاح أمرنا فقال سبحانه:

{فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}:

وألهَمَ: مأخوذة من الإلهام، والإلهام هو أن يعرِّف الله النفس بالشيء. تقول: ألهمني الله الطريق، وألهمني الجواب. والفجور: هو أن يقوم الإنسان بعمل يظهر منه الشر ويخرج الأذى والفساد تقول: فجر الماء، أي: ظهر وخرج من مستودعه.
والتقوى: هو أن يقوم الإنسان بعمل يقيه أذى شيء ويدفع ضرره عنه فإذا اشتدت علينا أشعة الشمس وحملنا بيدنا مظلة تقينا حرَّها فعملنا هذا تقوى. وإذا أردنا النزول عن سطح البيت فنزلنا على السلّم فعملنا هذا تقوى إذ أننا اتَّقينا الأذى الذي كان يصيبنا فيما لو ألقينا بأنفسنا مباشرة على الأرض.

وبناءً على ما قدَّمنا نقول:
إن الله تعالى لمَّا خلق النفس البشرية خلق فيها الشهوة والذوق، وهذه الشهوة هي من تمام نعمة الله على الإنسان وكمال فضله وإحسانه إليه، إذ أنه لولا الشهوة لما ذاق الإنسان لذة ولا عرف نعمة ولما وجد للحياة طعماً بل لكان أشبه بالجماد.

لكن هذه الشهوة إنما يكون الوصول إليها من طريقين:
طريق مؤذٍ مُضرٍّ يعود على صاحبه بالشقاء وعلى المجتمع الإنساني بالفساد وطريق مفيد نافع يعود على صاحبه بالسعادة والسرور وعلى المجتمع بالصلاح والخير.
وتقريباً لهذه الحقيقة من الأذهان نضرب على ذلك مثلاً فنقول:
هبْ أن أحدنا رأى شجرة صبَّار مثمرة فاشتهى ثمرة من ثمراتها، ومالت نفسه إليها، فهنا يصبح أمام أحد أمرين: إما أن يأتي إلى الثمرة من طريقها أي: يقطفها بعد أن يلبس القفاز الجلدي المخصص لذلك، ثم يغسلها ويقشرها ويجعلها في فمه وهنالك يهنأ بها ويتلذذ بطعمها ويكون وصوله إليها وتناوله لها خالياً من كل ألم وأذى.
وإما أن يمد يده كما يمدُّ طفل صغير لم يعقل بعدُ يده إليها من غير قفّاز، ثم يجعلها في فمه دون أن يقشِّرها وتكون لذته والحالة هذه مشوبة بالآلام كما يعقب تلك اللذة الآنية لذع الشوك المتواصل في أصابعه ويديه ولسانه وشفتيه، وينال حظَّه من الألم لقاء استعجاله وعدم اتقائه، لا بل جزاءً له على تفريطه وعدم سلوكه الطريق السوي إلى شهوته، وهكذا فالمال مثلاً:
إما أن يتوصَّل الإنسان إليه عن طريق شريف كأن يحترف حرفة عالية ويسير فيها بصدق وأمانة فتدر عليه بالمال، وإما أن يتوصل إليه من طرق ملتوية دنيئة فيختلس ويسرق أو يغش ويخدع ويعود ذلك عليه بالأذى وعلى المجتمع بالفساد.
وكذلك الأمر في الشهوة إلى النساء وحب الجاه والسلطان والتمتُّع بالطعام والشراب إلى غير ذلك من الشهوات. كل ذلك له طريقان: مفيدٌ نافع، وضارٌّ مُهلك.
على أن الله عندما خلق الأنفس لم يتركها وشأنها تضل طريقها ولا تهتدي إلى ما فيه خيرها وسعادتها بل طبَعَها بطابع الحق والفضيلة وفطرها على الفطرة الكاملة، وبذا أصبحت تُدرك الحق والفضيلة وتعرف الطريق السوي الذي تصل منه إلى شهوتها فتوقى كل أذى وشقاوة كما تدرك الطريق الملتوية التي تقودها إلى الفجور والرذيلة وذلك ما نستطيع أن نفهمه من آية: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}.

وبالحقيقة ما من إنسان إلاّ ولديه ذلك التمييز بين الحق والباطل والتفريق بين الفضيلة والرذيلة، وما من إنسان إلا وفي نفسه تلك المحكمة الداخلية المعنوية فهو يحكم على ما يصدر عنه وعلى ما يصدر عن غيره من الأعمال فيرى ما فيها من الخير أو الشر ويلحقها بزمرة الأعمال الفاضلة أو الرذيلة المنحطة. وفي الحديث الشريف:

« الحلال بيِّن والحرام بيِّن ».البخاري في الإيمان.
« واستفتِ قلبك وإن أفتاك المفتون وأفتوك ».رواه أحمد والدرامي
« والإثم ما حاك في الصدر وكرهت أن يطَّلِعَ عليه الناس ».رواه مسلم

وإذاً فهذه الفطرة العالية التي فطر الله الناس عليها هي التي جعلت في الإنسان ذلك التمييز والإدراك فإذا هو يفرِّق بين الخير والشر، والحق والباطل، والفضيلة والرذيلة.
ويحكم لأول وهلة على سيره في أي عمل من الأعمال، فترى البائع الغاش مثلاً واجفاً قلبه في بيعه متخفِّياً عن الناس في غشّه خائفاً من اطّلاعهم عليه.
وتجد الناصح الأمين مطمئن القلب لا يُبالي بشيء، وما ذاك إلاّ لعلم الأول بخروجه عن طريق الحق وإن شئت فقل بفجوره، وعلم الثاني بسمو سيره، وإن شئت فقل: بتقواه وتباعده عما فيه الأذى والإضرار بالناس.