{ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، وَطُورِ سِينِينَ، وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ}

بسم الله الرحمن الرحيم

يريد تعالى عطفاً منه علينا ورحمةً بنا، أن يُلفت نظر الإنسان إلى عظمة المخلوقات، فلعلَّه إذا فكَّر بها واستعظم خلْقَها انتقل منها إلى تعظيم خالقها وموجدها فكان له من تعظيمه سبب لإقباله وسعادته، ولذلك قال سبحانه:

{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}:

بكلمة "والتين": يريد تعالى أن يُلفت نظر الإنسان، وأن يوجِّه تفكيره إلى ما في ثمرة التين من عظمة الخلق. فلو نظر الإنسان إلى هذه الثمرة مُفكِّراً في كيفية تلقيحها وانعقادها لوجد أمراً عجيباً، فالتين كما نعلم ذكر وأنثى وأنه لا يتم انعقاد الثمرة إلا بعد تلقيحها بواسطة تلك الحشرات الصغيرة التي تطير من الثمرة المذكَّرة حاملة غبار الطلع حتى تصل إلى الثمرة المؤنثة، فمن الذي جعل التين ذكراً وأنثى؟. ومن الذي خلق هذه الحشرة الصغيرة تغدو وتروح بين الثمرتين؟. من الذي عرَّفها وأرشدها إلى أن تحمل هذا الغبار من ثمرة إلى ثمرة، وجعل لها هذه الوظيفة؟.
ثم انظر إلى الثمرة بعد استوائها ونضجها، وسَلْ نفسك من الذي أودع الحلاوة في هذه الثمرة، وجعل لها هذا الطعم اللذيذ، وهي إنما تخرج من الخشب وليس في الخشب من ذلك شيء؟.
ثم انظر من جهة ثانية إلى ثمرة التين تجد فيها بذوراً عديدة، في كل بذرة صغيرة انطوت شجرة كبيرة عظيمة، وفي الشجرة المنطوية أوراق وأغصان وأثمار، وفي الأثمار بذور، وفي البذور أشجار، وفي الأشجار أثمار وبذور، وإنك إذا ذهبت تفكِّر في ذلك وجدت في البذرة الواحدة الملايين من الأشجار، مما لا يحصيه عدد ولا يحيط به إدراك، فكيف انطوى ذلك كله في تلك البذرة الصغيرة التي اشتملت عليها ثمرة التين؟.
وإذا كان فكرك يضيق، وإدراكك يعجز عن الاحاطة بما في بذرة التين من أشجار وأثمار وهي مخلوق صغير من المخلوقات فكيف أنت إذا نظرت إلى خالقها العظيم، خالق الأرض والسموات، ذلك كله توحيه لنا كلمة: (وَالتِّينِ).. وفي كلمة: (وَالتِّينِ).. آيات بيِّنات.

أما كلمة (وَالزَّيْتُونِ): فإنها توجِّه نظرك وتدعو فكرك إلى النظر في هذه الثمرة وما فيها من آيات.
فمن أين أتت هذه المادة الدهنية إلى الزيتون وليس في التراب الذي يتغذى منه دهن ولا زيت، فمن الذي أودع فيه الزيت وجعل له هذا الطعم اللذيذ؟. من الذي أخرج نبتة الزيتون الضعيفة من تلك النواة القاسية الصلبة التي لا تتكسَّر إلا بعد جهد جهيد؟. ما هذه القناطير المقنطرة من الزيت والزيتون التي تجود بها شجرة الزيتون التي تعيش وتُعمِّر مئات السنين، ذلك كله إنما انطوى في تلك النواة الصغيرة التي تلفظها من فمك غير ناظر إلى ما أودعته فيها يد الخالق العظيم والمدبِّر الحكيم.
وبعد أن ذكر تعالى التين والزيتون وما انطوى فيهما من حكمة عالية وقدرة عظيمة وفضل ونعمة، بيَّن تعالى لعباده مصدر تلك الحكمة والقدرة والمنبع الذي يفيض بهذا الفضل الواسع والنعمة السابغة، فقال تعالى:

{وَطُورِ سِينِينَ}:

أي: إنما ذلك هو صادر عن طور سينين. والطور: إنما تعني تلك الصفة الإلٓهية الكاملة والشأن الإلٓهي الذي يفيض برّه وتشملُ رحمته ويغمر إحسانه الكائنات كلها والمخلوقات جميعها.
وسينين: مأخوذة من السناء، وهو الرفعة والعلو، وطور سينين: أي: العالي الذي لا يتناهى. وبشيء من التفصيل ولتقريب ذلك من الفهم نقول:
قد يتحدَّث الناس عن كرم رجل، ويُكبرون فيه هذه الصفة العالية، ثم يرجعون بالقول فيقولون: لا عجب ففلان طوره عالٍ، طوره الكرم، وقد يذكرون مروءة شخص وأعماله الإنسانية ثم يقولون: لا غرابة في ذلك ففلان طوره عالٍ طوره المروءة والإنسانية.
وإذا كانت كلمة (الطور) إنما تعبِّر عن طبيعة المخلوق وعن خُلُقه، فإن كلمة (الطُور) إنما تشير إلى صفة الذات العلية الكريمة وإلى شأنها العالي البالغ في العظمة والرحمة.

فمن الطور الإلٓهي لا يصدر إلاَّ الفضل والإكرام، وعن طور سينين لا يفيض إلا البرّ الإلٓهي والإحسان. ومن طور سينين تنبعث الرحمة الإلٓهية الشاملة التي تسبح فيها سائر المخلوقات.

وبعد أن بدأ تعالى هذه السورة الكريمة بذكر التين والزيتون ليُشهدنا ما في هاتين الثمرتين من حكمة وقدرة وفضل ومنَّة، ذكر لنا كلمة (الطور) ليبين لنا المصدر الذي ينبعث عنه هذا الفضل، ثم تدرَّج بنا إلى درجة أوسع في التأمُّل والتفكير فوجَّه نظرنا إلى الكون كله. ولذلك قال تعالى:

{وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ}:

والمراد بالبلد هنا: الكون كله، فهو لهذا النوع الإنساني بلد أمين فيه كل شيء، فليس ينقصه شيء.